للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أنفاسها كالشارب الثمل. وكيف تفعل هذه البيداء بنا وبقلوبنا؟ قيظٌ يسلخُ جلد الحية ويذيبُ دماغ الضبِّ، لا يلبث أن تنفحنا بعده بنسيمٍ هفافٍ كأن الليل يتنفس به ليخفف عنا بلاء نهارنا، ويفوح من بُرُود الليل شَذا الأقاحيّ (١) فيفغم (٢) الفضاءَ كلَّه أحيانًا حتى يخيل إليّ أن البادية المجدبة قد استحالتْ روضة تنفث أزهارُها الطيبَ من حيث استقبلتُ، فأجد لها روحًا على كبدي وواحة فأعبُّ من أنفاسها عبًّا حتى أقول لقد سَكِرتُ من غير سُكرٍ. ثم ما أندى رويحةَ الفجر على قلوب السارينَ في هذه المهامه السحيقة المتقاذفة (٣)! فإن عبِيرَها وبَرْدها والنور المشعشع على أرجائها يجعلك تحسُّ حسًّا لا يكذب بأنك تحيى في لذاذات لا ينقضي منها أربٌ ولا يستحيل لها مذاقٌ. ولقد حبب إلى الخروجُ إلى البادية كلما وجدتُ في نفسي طائفًا من سآمة أو مللٍ، فيا بُعدَ ما بين الحاضرةِ وجوّها الكامِد الجاثم ليلا ونهارًا، وبين هذه الرّحاب المتمادية التي يبثُّها النهارُ لواعجه وحرقه، ويأتي الليل فيناجيها نجوى خافتةً بما في ضميره العميق المشتمل على أسرار الحياة برِّها وفاجِرها، وتقف النجومُ على أرجاء سمائها مصغياتٍ مشرقات زاهرات كأنما يومِضُ بعضُها لبعضٍ فرحًا بما سمعت من تلك الأسرار المصونة المكتمةَ.

* * *

كلما أوغلنا في البادية وفي قلب الليل ازددتُ فتنةً بليالي الصحراء وتهامُس رمالها وتَناجى كواكِبها، وأسمعُ للَّيل هَسهسةً كأنها أحاديثُ قُلوب عاشقة قد تدانى بها السِّرارُ، فتمضي الساعات والعيسُ ماضيةٌ بنا فلا نملّ ولا نكلُّ ولا نحسُّ وحدة ولا مخافةً، كأنّا قد دخلنا الحرم الآمنَ الذي لا يراع اللائذ به. وجعلتْ نفسي تتجدَّد وتتطهر كأن برد الليل قد غسلها فما تشوبُ نقاءها شائبة.


(١) الأقاحي: جمع أقْحُوان: نَبت طيب الريح، حواليه ورق أبيض ووسطه أصفر، تُشبه به ثغور النساء.
(٢) يفغم: يملأه برائحة طيبة.
(٣) المهامه: جمع مهمه، وهو الصحراء. المتقاذفة: البعيدة.