للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يجعل العرق ثقيلا كثيفًا يضجر النفس ويأخذ بالأنفاس، فلما ركبنا السيارة، وتخففنا من بعض ثيابنا، واستقبلتنا لفحات الهواء الساخن، انتعشت القلوب ودبت فيها الحركة، على سكونها وفتورها من شدة الصيام وحاجة الأبدان إلى الماء في مثل هذا اليوم، وعندئذ بدأ الفنان يتحدث عن الوجه الذي يقودنا إليه فطاف علينا من حديثه مثل الظل حتى نسينا أننا في رمضان في يوم قائظ تحت الشمس. إنه ماض بنا إلى أثر عربي قديم في ناحية "بيت القاضي" يقال له "قاعة محب الدين الشافعي" وتعرف أيضًا بقاعة "كتخدا". فلما أوشكنا على دخول القاهرة القديمة شممت روائح مصر الإسلامية، وتمثلت لعيني خوالى أيامها، ورأيت كأن هذه الجموع التي تسير في الطرقات كأنما انبعثت من الماضي البعيد بلباسها وشمائلها وآدابها رائحة غادية تحت عيني، وكان حديث الفنان يُحْيى هذه الصور في نفسي حياة جديدة، حتى كدت إخالنى أحدثها وأسمع رجع حديثها، وأرى الثياب الفضفاضة، والعمائم البيض، واللحى المرسلة، والسمت الوقور، والمشية الهادئة، وكأن كل شيء قد انقلب فجأة فصار ماضيًا لم تمسخه يد الحضارة الغربية الحديثة، ولم تمح من بهائه وروائه ذلك الجمال الوديع اللطيف المطمئن القانع بالحياة كما شاء الله أن تكون.

ثم نزلنا من السيارة، وفتح لنا باب القاعة التي صارت في عداد الآثار، فما كادت قدمي تطأ بلاطها الضخم حتى أحسست كأن قلبي ينتفض من فجاءة الذكرى، وكأنى دخلت دارى التي ألفتها وعشت فيها، وسمعت في أرجائها غمغمة الحديث وقهقهة الضحكات، والتي سعيت في نواحيها طفلا وشابا وكهلا حتى نشأت لها في قلبي مودة لا تبليها الغربة، ولا تطمس آثارها الرحلة في أرجاء الدنيا، وتطارح الزمن المشِت المفرق بين الأحباب والأحباب. ففي هذا المكان عهدتني أجلس على أريكة موشاة بالثياب المطرزة، وأستقبل هذه "الفسقية" الجميلة التي أراها في وسط القاعة، مزينة أرضها بالرخام الملون المرسوم على أشكال تستريح إليها العين راحة لا يعدلها شيء من متاع هذه الأرض. ومن هذا المكان عهدتنى أرى تلك الحلية الهائلة التي كأنها محراب