للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ثم ذكرت هذا الرجل الذي طواه الغيب إلى ميقاته، فأنا أكتب له حتى يخرج من غمار هذا الخلق، وينفرد من هذه (السائمة)، ليقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي تنبض به ضمائر قلوبها. رجل خلطت طينته التي منها خُلِقَ بالحرية. فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبدًا لأحد من خلق الله. يسير بين الناس فتسرى نفسه في نفوسهم، وتموج الحياة يومئذ بأمواجها، ثم لا يقف دونها شيء مهما بلغ من قوته وجبروته. وزعمت أن الشرق العربي والإسلامي، ينتظر صابرًا كعادته هذا الرجل، وأننا قد أشرفنا على أمر قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل، لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد أرضعنا الدهر بلبانها منذ الأزل البعيد.

ثم ختمت كلامي بهذه الفقرة: فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا قليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة، يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة، التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتْر منها شريك" (١).

كتبت هذا يومئذ، والناس في ظلمة ليل بهيم. ومنذ ذلك اليوم والأحداث في الشرق العربي الإسلامي آخذ بعضها برقاب بعض. وحركت الأحداث المتتابعة نواعس الآمال، فهبت تمسح من عيونها النوم المتقادم. ثم حملقت في أكداس الظلام المركوم، فأوهمتها اليقظة أن الظلام من حولها يومض من بعيد ببصيص من نور. فتنادت الصيحات بانقشاع الظلم: وافرحتاه! وصرخت وأنا في محبسي: واحسرتاه! أعمى رأي الظلام نهارا!

كانت الدنيا يومئذ ظلامًا، ونعرفها نحن ظلاما. والمعرفة دائما تفضى إلى خير. ثم أصبحت الدنيا أشد ظلاما. ونتوهمها نحن نورا ينبثق. والتوهم مفض


(١) الفِتْر: مسافة ما بين السبَّابة والإبهام.