للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المبتسمة في ربيعها من الطلّ والندى، صافي العينين كالماء النمير في مجرى من البلور، كثّ اللحية محفوف الشارب أهدب الأشفار أبلج الحاجبين في شعرهما وَطَفٌ (١)، ضخم الهامة سابق الهيبة بادى الحنان، في جسمهِ بسطة تذكرك بما تقرأ في صفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. هذا هو السيد الشريف "الكتانى" عالم الشريعة الإسلامية وهذه صفتهُ أول ما تكتحل عيناك بطلعته.

هو في الثامنة والأربعين من عمره، ولكن تطالعك هذه السنوات القلائل من عينيه بالكَبْرة الملطفه بشباب القلب، المخففة بحياة النفس العزيزة المتألمة المثخنة بالجراح من أحداث الدهر وعواديه. ينظر إليك حينًا نظرة العالم المتمكن الأمين المتثبت الذي شغله العلم عن الحياة المادية الغليظة، فتحملك نظرته هذه من مجلس بسيط وديع إلى بحر من العلم يفتنك هدوءه كما يروعك وعلى اصطخابه إذا ازدحمت فيه أسباب الحركة العلمية. وينظر إليك حينًا وهو يستمع هادئًا نظرة المشفق الحريص الذي يودُّ أن يراك مصيبًا لم تخطئ. وأنت لا تزال في مجلسه بين أنواع من النظرات لها معانيها، ولهذه المعاني أسبابها، ولهذه الأسباب بواعثها، ولهذه البواعث محركاتها، وهذه المحركات خفايا من وراء النفس، منقمعة مكتومة لا تنفذ إليها إلّا نظرات أروع وقّاد قد ابتلى دقائق النفس الإنسانية بالممارسة والذهن المتوقد الذي يرى من آيات الله آيات من البلاغة الإلهية التي تمس الروح مسة تيار كهربائى ترعَش به أعصاب الإنسانية وتنتفض.

أنت من مجلسه في مجلس الحافظ لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والفقيه الذي قلب آيات الفقه الإسلامي بالبصر والبصيرة، والمؤرخ الذي انفتق له السور (٢) عن تاريخ العرب والأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، والألمعي ذي الدهاء الذي ركَّبت الأحداث في نفسه آلة إحساس دقيقة تحس بالبعيد إحساسها بالقريب ولا تكاد تخطئ إلا بمقدار ما في النفس الإنسانية من أسباب الخطأ الذي لا تنفيه إلّا


(١) الوَطَفُ: كثرة شعر الحاجبين.
(٢) يريد الأستاذ بذلك -فيما أظن- أن الحائط الذي أقامه الزمن قد انشق أمام بصيرة الرجل، فأزال ما تراكم عليه من غبار الأمد، فبدا تاريخا مشرقا واضحا.