للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن اتساع الفكرة في هذا الزمن ثم بساطتها ثم خفاءِ موضع الفلسفة العالية فيها، ثم تغلغل النظرة الفلسفية إلى أعماق الحقيقة الحية في الكون هو رأس ما يمتاز بهِ كبار الأفذاذ والبلغاءِ في عصرنا هذا. وهو النوع الذي لم تعرفهُ العربية إلَّا في القليل من شعرائها، وفي القليل من شعر هؤلاء الشعراء. وليس في العربية من هذا النوع إلا معجزتان: إحداهما القرآن، والأخرى ما صحَّ من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففيهما وحدهما تبلغ الفكرة في نفسها، ثم بتعبيرها وألفاظها، ثمَّ بشمول معانيها لجميع الحقائق الواشجة بها، ثم بسريانها من ألفاظها وكلماتها مسرى الرَّوْح العطر في جوّ السَّحَر، ثم فوق ذلك كله البساطة واللين والتقارب والتعاطف بين هذه المعاني كلها -نقول يبلغ هذا كلهُ مبلغا يكون منه ما هو كنسيم الجنة في طيبه ونعمته، ويكون منه ما هو كحزّ المواسى في علائق القلوب، ويكون منهُ ما هو كالنار تستعر وتتلذع، ويكون منهُ ما ينتظم البنيان الإنساني البليغ المتفهم فيهزُّه هزّ الزلزلة أعصاب الأرض وبهذا كان القرآن معجزًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبمثله كان حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو ذروة البلاغة البشرية التي تتقطع دونها أعناق الرجال ..

* * *

أما الأمر الآخر الذي لا أشك فيه حين أقرأ شعر عبد المطلب، فهو هذه الحياة التي تترقرق في شعره وإن كان هذا الشعر نفسهُ على النمط الذي يسمونه (التقليدي)، فهو يصف الإبل ويتغزل لافتتاح القصيدة ثم يتخلص من غزلِه إلى المدح أو أي غرض كان من أغراض الشعر إلى غير ذلك من الملامح التي يحفظها هذا الشعر الحديث لشعر آبائنا رحمهم الله في عصورهم الماضية. فالعجب أن يكون عبد المطلب وهو الرجل العربي الذي احتفظ بعربيته في القرن العشرين يحاكى شعر أجدادنا وأجداده ولا يخرج الشعر من فكره فاترًا ميتًا بل يخرج وهو يتحرك وينبض وكأنهُ شعر عصره الذي كان يمكن أن يقال فيه هذا هو العجب. وهو عندي الدليل الوحيد على ما كان في نفس عبد المطلب رحمة الله عليه من أسباب الشعر ومادته الحية.