للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الدنيا منهُ ما يحده أو يطغيهِ أو يلفتهُ، فهو بصيرة تنفذ، وقوة تعمل، وإخلاص يجلو، وجمال يحب. وهذا هو سر الأسلوب الذي انفرد بهِ الرافعي.

والرافعي كاتب قد استولى على الأمد في مادة الكتابة، فاللغة عنده مادة للتعبير لا مادة للحفظ والاستعمال، فهو قد قرأها قراءة البصير ليرى الفروق الخفية بين اللفظ ومرادفهِ وليعلم حق اللفظ من العبارة، وحق العبارة من الألفاظ، فيظن بعض من لا قدرة لهُ أن الرافعي يريد الإغراب على الناس في كلامهِ، واستجلاب الغريب من اللغة للتفاصح، وما بهِ ذلك، وإنما هي المعاني. . . المعاني عند الرافعي هي التي لها حق اختيار الألفاظ من لغتهِ. وهو لا يأخذ ألفاظهُ من المعاجم وإنما يأخذها من سليقته التي صقلتها المعاجم. وقد أكثر الناس من نقد الرافعي زمنًا ووضعوا عليه من أوهامهم غشاءً آذاهم ولم ينفعهم، وحجتهم في ذلك هذه اللغة التي أحيا الرافعي مواتها ببيانهِ. وما اللغة؟ أهي الألفاظ قائمة بالمعاني التي وضعتها لها المعاجم ووقفت عندها؟ إن هذه ليست بشيء، وما هي إلا أداة كالسيف. فالسيف على جودته لا يعمل إلا أضعف العمل، فإذا أخذتهُ أنت وجعلت تتدرب بهِ وتمرن ساعدك عليهِ، وعرفت كيف تجيد الضريبة وتصيب المقطع، كان لهُ أقوى العمل، لأن السر في ساعد منتضيهِ وبصره وحيلتهِ لا في حدِّه وعارضَيْه.

واللغة لا تقوم بغير فكرة، والرافعي قد استولى على أصولها، بقوة الإدراك وشموله وتراميه، وبالقدرة على الإبانة عنها باللفظ المتصل الماضي الذي لا ينقطع دونها، وبسمو الخيال وتراحبه واستطالته. فالرافعي يدمن على الفكرة الواحدة إدمان الفيلسوف الصابر الثابت بين إدارتها وتطبيقها وبسطها وردها إلى أصول مقررة في الحياة، ثم لا يزال يجمع بينها وبين قرائنها، ويحدد فرق ما بين القرينين ما ظهر من ذلك وما استتر، ثم يصحح النظر في الأصل الذي يردُّ إليهِ أفكاره تصحيح الحكيم المقرر حتى لا يقع بينها التدابر والاختلاط والفساد. ولا يزال على ذلك يقيد ويطلق ويأخذ ويدع بقانون طبيعي في نفسه، فلا يترك الفكرة إلَّا وقد ولدت لهُ صغارًا من الأفكار فيها من الجمال والسحر والقوة الكامنة