للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يؤلَّف لغرضٍ يشملهُ- أحرى بالاستفاضة فيه من مجلة تحدّ الرأي بحدود من الورق!

ولقد علمتَ أن ضرورة الحياة الفطرية الأولى هي التي نزعت بالحرف الحلقيّ المغسولِ -المسمى في عبارة المتكلمين "بالهمزة"- أن يكونَ هو أقربَ الحروف إلى النداءِ، والتعجب، والاستفهام، والإشارة، والتنبيه، والأمر، والتحذير، وذلك لأن هذه المعاني كلها ليست إلَّا أقربَ الحوافِز التي تحفِزُ الإنسان الفطريَّ إلى إرادة التعبير، لفرط حاجته إلى كل منها بضرورة الطبع، لما يلاقيه مما يَصدِمُهُ ويتذَمَّرُ عليه من تصاريف الحياة وتخاليف الأحوال التي تُقبِلُ عليهِ فتدفعُهُ إلى نداء مَنْ يستعينه من أبٍ أو ولدٍ أو أخٍ أو زوجةٍ، أو تحمله على الاستغاثة، بالإشارة، أو الإغاثة بالتنبيه والتحذير. ثم لما يتجددُ عليهِ مما يستخرج عجَبَه أو ما ينصبُّ عليهِ مما يستغلقُ ويستبهمُ، فيجيله إلى طلب الاستفهام أو الاستنكار. ولعلك لستَ تشكُّ في أن ذلك هو أولُ ما يبدأ الحيُّ على الأرض وما يتنازعهُ من الضرورة، كما لا تشكُّ في أن أوّل مطاوع لهُ من الصوت هو ما يصوّتُ من الجوف والحلق، دون ما يكون تصويتهُ من قِبَل اللسان والفم والشفة مما هو لا يُطيع إلَّا بالمداورة والهز والتمرين والدُّربه على حركة بعينها مرة بعد مرة. وفي أصوات سائر الحيوان -خلاف الإنسان- دليل ذلك والبرهان عليه وعلى صحة مذهبنا إليه، فإن أصوات جميع الحيوان إنما هي أصوات حلقية تتردد، إلا ما كان من مثل صوت الغراب والقط والجُندب والبازى والقَطا وما إلى ذلك مما انفردَ من الحيوان والطير بحرفٍ يتردد، في مدارج نفسهِ أو منقط صوته. ثم لا يكون ذلك إلَّا حرفًا واحدًا مقاربًا، أو بعض حرفين متجانسين يتليَّن شدتهما ألفٌ أو همزةٌ مختلسة تكون بينهما فاصلةٌ.

ولما كان من أول ضرورة الحياة الفطرية أيضًا أن يلاقىَ الإنسان من الهول ما يفزعه ويخيفه وما يتعرض لهُ من الجرح والكدم في صراع غيره من الإنسان والحيوان، وما يجد بعد ذلك من الألم والشدة، ثم ما يحمله عليهِ الأَلم الممضُّ من التأوه والأنين والغيظ والحنق، ثم ما هو من دواعى الفطرة الإنسانية القائمة على الغرائز الاجتماعية كالذي يجده إذا توحّد وانفرد من الحنين والحيرة والوجد -لمَّا