للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لقد انتزعت نفسي من بين أحبابى وأصحابى، ولزمنى أن أبطل -في هذا العمل الصحفي- معنى العداوة والصداقة في جانب من قلبي، إذ ليس أقتل لعمل الصحافي من تحكم العداوة ومحاباة الصداقة. ولئن كنت قد خسرت لذة إيثار الصديق، فأحسبنى سوف أربح جمال إيثار الحق والعدل من طريق المساواة في المحبة. وكأيّ من لذة تعدل لذة القدرة على إنصاف عدوك من نفسك حين يكون مع الحق، أو كان الحق معه! !

إن هذا العمل الذي أقدم عليه يكاد يشعرنى بعض الفكر فيه بدبيب الشيب وهو يصَّاعد بين القلب والشعر، ويكاد يحملنى بعض هذا الفكر على حالة من أريحية الصبا وعنفوان الشباب، أتدفق بهما في نفسي تدفق السيل تحت صعقات الرعد، وخفقات البروق؛ وانقضاض الرياح العواصف بين مخارم الأودية وأفواه الفجاج.

أما دبيب الشيب: فمن هول المطلع، حين أُغمض عيني على هدأة وأرمى ببصيرتى فأرى ليلا مظلمًا قد أطبق على هذه الشعوب العربية والإسلامية والشرقية، وأرى من ورائها دنيا تموج وتضطرب، وتضئ وتخبو، وتسمو وتتضع، وتأخذ وتدع. . . توشك أن تلتهم الشرق كله، فينتاشنى (١) الهم من نواحي نفسي، ويتداخلنى الرعب والفزع واليأس أو يكاد. كيف. . .! كيف نستنقذ مجدنا وتاريخنا وأرواحنا وذرارينا من بعدنا، وأنّى المسلك؟ إن أحدنا ليضربه العجز عن ضبط ما يتبدد على أفكاره من خطرات الرأي التي يريد نفسه وأمته على العمل بها لينقذ روحه من الهلاك، ومجده من التهدم، وذريته من إرث السوء وتركات الشر.

وأما عنفوان الشباب: فحين أمد طرفي إلى مجد آبائى وأجدادى، وهم يهبّون من بواديهم في غبارها، ثم لا يلبثون إلا قليلا فيملأون الدنيا حضارة تلوح


(١) انتاشه: أخذه وتناوله من قريب.