للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

حدة البصيرة ومضائها، فأسفت أن يكون هذا الأخ قد جاوز الثلاثين من عمره، وهو ما هو، ثم هو لا يزال حائرًا بعد ذلك لا يستطيع أن يملأ نفسه من زاد الأدب، ولا يطيق أن يحمل أداة العمل الأدبى المرهق الذي أعد له في طبعه. وحملنى كتابه على التفكير في شأنه وشأن أمثاله من الأدباء الذين قتل أدبهم سوء التعليم في الصِّغَر، وفي الأدباء الذين يكتبون للأدب وهم لا يجيدون ما يكتبون، ولولا أن صاحبنا هذا حيى متواضع -كما وصف نفسه- لكان من الممكن أن يزاحم كما زاحم غيره غير مبال بتقدير نفسه وتقدير ما يكتب قبل أن ينشره على الناس، فلذلك أحببت أن أجعل رسالتي إليه رسالة عامة يحملها إليه بريد "الدستور". ولا بأس من أن يستفيد هو ويشرك معه غيره، إذ كان الذي يجده من الضعف يجد كثير من الناس مثله في أنفسهم، وكثير لا يبالى أن يجد ذلك ثم يكتب وهو لا يبالى أن يجيد أو يستفيد.

وأول ما تجب معرفته لكل طالب أدب، أن لكل علم آلة، ولكل آلة نظاما، ولكل نظام مبدأ، ولكل مبدأ أصولا، فإذا فسد الأصل فسد معه المبدأ والنظام وتوقفت الآلة حتى يعلوها الصدأ، وإذا وقع بعض الاختلال في بعض الأصول أفضى هذا الاختلال إلى الآلة فجعلها تدور متعسرة ضالة يتكسر سن منها على سن حتى ينتهي بها ذلك إلى الفساد عامة بعد الجعجعة والضوضاء والصخب الذي هو كل إنتاجها. فليس ثمة علم من العلوم أو فن من الفنون إلا وقد استأثر بأصول مؤسسة، لابد لكل راغب -في شيء من هذه العلوم والفنون- أن يستوعبها ويجيدها ويحسن التصرف فيها إذا عالجها حتى لا يتوقف به العجز بعد الدخول في بحبوحة هذا العلم أو الفن، إذا فَجأهُ ما يفجأ مما لابد منه ولا محيص عنه.

فطالب الهندسة مثلا إذا لم يعرف أصولها من النقطة والخط والزاوية القائمة والحادة والمنفرجة، والأشكال المختلفة بين التربيع والتثليث والتدوير، وما يتبع كل ذلك من البرهان على صحة الأحكام التي تقتضيها هذه الأشكال الهندسية - فهو خليق إذن أن لا يجيد شيئا من الهندسة مهما طال مراسه لها، وتتبعه لكتبها الكبيرة التي لا تلم بشرح هذه الأصول الإبتدائية.