للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

في بعض الإنجيل هذه الكلمة: "من وجد نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها"، أفيكون معنى ذلك أن النفس الإنسانية لا توجد باقية أبدًا إلا وهي مستهلكة، وأن الأشياء الشريفة التي تهلك هي بعينها التي تُحيى، وأنه لا معنى للشيء الحىِّ إلا أن يجتمع فيه معنى الأشياء الشريفة، الموت والحياة معًا، وأن استغراق النفس واستهلاكها في الأحزان النبيلة وتعذيبها بها هو استحياؤها وتنعيمها، وأن العمل المهلك والفكر المهلك هما العمل الإنساني الجليل الذي خُلِقَتْ من أجله الحياة على الأرض! وعلى ذلك لا تكون النفْس حيَّة أبدًا إلا وهي سائرة بالحياة في مَسبَعَةٍ (١) من الموت، يتخطفها كل شيء حتى الأسباب التي يستوجب بها الحىّ صفة الحياة! إذن ما أعجب الحياة.

* * *

وإذن فقد فرَّت مني المعاني التي أحمل نفسي الآن على علاجها، واستجهلتني الآلام في عواصفها حتى ذهبت هذا المذهب الحزين من القول لأقدِّم به الكلام في هذا الباب الذي عقده "الزيات" للأدب، ومع ذلك فإني لأرى الصلة التي تصل أصل هذا الباب بالأصل الذي في نفسي، فإن تتبع "الظواهر الأدبية" ينبغي أن توفر له أسباب الاستقرار النفسي حتى يستطيع الكاتب أن يجمع إليه المعاني ويضرب عليها الحصار حتى يفندها أو ينقدها أو يحصيها أو يبين عن غامضها أو يكشفَ أستارها أو يقدم لها بالنظر والفكر والتوهم ما يوجب بعض النتائج التي تفضي به الآراء إليها، وبذلك يمكنه أن يوجد للأدب ميدانًا تستعرض فيه أعماله التي يدأب الأدباء والكتاب والشعراء وأصحاب الرأي في صنعها وتجويدها. فإذا تناول هذا الأمر بالنفس التي لا تستقر ولا تهدأ كان عمله أقرب إلى الثورة -أي إلى الفوضى- من حيث يريد أن ينظم، ومع ذلك فإن الخير كل الخير أن نحاول الحياة كما تحاولنا بالاقتسار والعنف، وأن نقبل عليها وهي مدبرة بالبرهان على إمكان احتمالها جافية كانت أو ناعمة، ومؤلمة كانت أو مريحة،


(١) المسبعة: الأرض تمتلئ بالسباع، وهي كل حيوان مفترس.