للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يمتحن الإنسانية بالاستبداد والتعذيب والمحاصرة وطول الحرمان وشدة البلاء، ليخلص الحق بقوته من كل ضعف، وإذا خلص الحق من رعاع الأخلاق وأنذال الطبائع وجبناء الغرائز، اتصلت كالسيف ما مس من شيء قطع، وهو يومئذ لا يُغْلَب لأنه لا يَتهيّب، ولا يذل لأنه لا يطمع، ولابد أن ينتصر لأنه لابد أن يجنى.

هذا، وإن تقصير أصحاب الصوت الذين يصلون بأصواتهم إلى أسماع الجماهير، هو البلاء الذي يتفلت به تاريخ الأمة من أيدى الشعب، فتضيع الفرص السانحة التي تعرض على الشعب مجدًا وعزا وحرية وبقاء وذكرًا حسنا في التاريخ، فإن هذه الساعة التي وصفناها إنما هي اهتبال للفرصة وتعلق بها وحرص عليها، ثم حسن التصريف والتدبير والأهداف إلى أغراض من المجد، ثم حث للأمة على اليقظة وتنبيهها إلى علم الحقيقة التي تعيش فيها، والحقيقة الأخرى التي ينبغي أن تعمل لها لتعيش بها.

فإذا عرضت للأمة هذه الساعة التاريخية الخاطفة، فلم تجد أصوات قادتها -من أدبائها وشعرائها وكتابها، وأصحاب الرأي فيها، وذوي السلطان منها- فقد استحقت كلمة العذاب في التاريخ، وتأتي الأجيال بعد الأجيال لتقرأ فتعرف، فتصب اللعنات على ماضيها وأهل ماضيها، لعنات كأنها شواظ من النار مصبوب على السلف الذي فرط في حقوق الأرض التي تغذوه وتربيه وترعاه وتحوطه، وتجعل له نسبا ينتهي إليه وخلفا يستمر به حيا في التاريخ.

ونحن اليوم قد وقفنا وعرضت لنا هذه الساعة الخالدة في تاريخ مصر، بل في تاريخ العرب، بل في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الشرق كله، واشتعل لها رجل واحد فأضاء عليها وجلاها كشفها لِكل ذي عينين مبصر، وجرد معها نفسه للفداء والتضحية. . . هذا هو على ماهر، ولكنه آثر الرفق فلم يعنف ولكن الأمة التي فداها بنفسه لم تعرف بعد أن هذا هو يومها الذي تستطيع فيه أن تجدد تاريخ الشرق وتاريخ مصر، وإن أكثر أصحاب الصوت فيها قد خرسوا وأَرَمُّوا (١)


(١) أَرَمَّ: جلس ساكنا لا يتحرك.