للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لتصح أبداننا، ونبذله لنواسى فقيرنا، ونجتمع عليه لتأتلف قلوبنا، ونصوم شهر رمضان فلا تصح لنا أبدان، ولا يواسى فقير، ولا تأتلف قلوب- وإذا تم بعض ذلك فسرعان ما يزول بزوال الشهر وتنتهي آثاره في النفس وفي البدن وفي المجتمع.

ولو أنصفنا هذه الكلمة المظلومة المعذبة لرأينا الصيام -كما كتب على أهل هذا الدين- طاعة خالصة بين العبد وربه، يأتيها الفقير الهالك ابتغاء رضوان الله، ويأتيها الغني الواجد ابتغاء رضوان الله، ويأتيانها جميعا في شهر رمضان، ويأتيانها فرادى في غير شهر رمضان، لا ليعيشا في معاني المعدة بالبذل أو بالحرمان، بل ليخرجا معا سواء عن سلطان الطعام والشراب، وليخرجا معا سواء من سلطان الشهوات بل ليخرجا معا سواء من سلطان كل نقيصة: من سلطان الخوف فلا يخاف أحدهما إلا الله، ومن سلطان الرياء فلا يعمل إلا لله. وليس بين الصائم وبين ربه أحد، ولا يحول بينه وبين الاستجابة لربه شيء من أشياء الدنيا، أو حاجات البدن، أو داعيات الغرائز أو نزوات العقول.

فتأمل معنى الصيام من حيث نظرت إليه: هو عتق النفس الإنسانية من كل رق: من رق الحياة ومطالبها ومن رق الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رق النفس وشهواتها ومن رق العقول ونوازعها، ومن رق المخاوف حاضرها وغائبها، حتى تشعر بالحرية الخالصة، حرية الوجود، وحرية الإرادة، وحرية العمل. فتحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضا وتأتيه تطوعا. ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض، لتقيم فيها الحق، ولتقضى فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق- لا يرضى لها أن تذل لأعظم حاجات البدن لأنها أقوى منها، ولا لأعتى مطالب الحياة لأنها أسمى منها، ولا لأطغى قوى الأرض لأنها أعز سلطانا منها. وأراد الله أن يكرم هذه العبادات فأوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر الناس عن ربه إذ قال "الصوم لي"، فلا رياء فيه لأنه جرد لله فلا يراد به إلّا وجه الله، فاستأثر به الله دون سائر العبادات، فهو الذي يقبله عن عبده، وهو الذي يجزى به كما يشاء.