للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسألة]

اعلم أنّ من عادة العرب الإيجاز والاختصار والحذف طلبا لتقصير الكلام واطّراح فضوله، والاستغناء بقليله عن كثيره؛ ويعدّون ذلك فصاحة وبلاغة. وفى القرآن؛ من هذه الحذوف، والاستغناء بالقليل من الكلام عن الكثير مواضع كثيرة نزلت من الحسن فى أعلى منازله؛ ولو أفردنا لما فى القرآن من الحذوف الغريبة، والاختصارات العجيبة كتابا لكان واجبا.

فمن ظاهر ذلك قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى؛ [الرعد: ٣١] ولم يأت ل لَوْ جواب فى صريح الكتاب؛ وإنما أراد: لو أن قرآنا سيرت به الجبال لكان هذا. ومثل هذا الحذف ما روى عن النبىّ

صلى الله عليه وآله من قوله: «لو كتب هذا القرآن فى إهاب وطرح فى النار ما أحرقته النار»؛ والمراد: وكانت النار مما لا يحرق جسما لجلالة قدره ما أحرقته؛ فحذف ذلك اختصارا لدلالة الكلام عليه، ومثل هذا قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا؛ [الأحزاب: ٧٢] وتقديره: إن السموات والأرض والجبال لو كنّ مما يأبى ويشفق، وعرضنا عليهنّ الأمانة لأبين وأشفقن. وجعل المعلوم بمنزلة الواقع فقال: عَرَضْنَا من حيث علم أن ذلك المشروط لو وقع شرطه لحصل هو.

وهذا التأويل الّذي استخرجناه أولى مما ذكره المفسّرون من أنه تعالى أراد: عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض؛ لأن أهل السموات والأرض هم الناس والملائكة، فأىّ معنى لقوله وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وهو يريد الجنس! ومثله قول الشاعر:

* امتلأ الحوض وقال قطنى (١) *


(١) بعده:
* حسبى رويدا قد ملأت بطنى*
والبيت فى مقاييس اللغة ٥: ١٤.