للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تُمتحَن الألسنُ والأقلامُ في نُطْق الحقِّ والسكوتِ عن الباطل - وربما زلّ اللسانُ قال فُحشًا .. أو توارى عن كشفِ الباطلِ فكان شيطانًا ناطِقًا أو صامتًا، وربما كتب الغيورُ ناقدًا متأوِّلًا فزاد الجُرحَ عمقًا، وعكَّرَ صفوَ الاجتماع والأُلْفة، وياليتَ قومي يعلمون أنَّ ميدانَ المعركةِ مع عدوِّنا أرحبُ، ومجالاتِها لا تُحَدّ، وهم يُراهنون على إشعالِ الفتيل بين المسلمين، ومن نوادرِ الذهبيِّ رحمه الله قوله: «ربما آلَ الأمرُ بالبمعروف بصاحبِه إلى الغضبِ والحِدَّة، فيقعُ في الهِجْران المحرَّم، وربما أفضى إلى التكفيرِ والسعيِ في الدم» (١).

نعم إنَّ الخطأ واردٌ، ولا عِصمةَ لأحدٍ إلا للأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، ولكن لنترفَّقْ في النقدِ ولنُحسنِ الظنَّ بمن هم أهلٌ لذلك.

وفي أزمانِ الفتن كذلك تُمتحَن المشاعرُ والعواطفُ أكثرَ، فهذا باردُ الإحساسِ عديمُ المشاعر، وذاك تتوهَّجُ عاطفتُه وتَغْلي حتى تغلبَ عقلَه، وفئةٌ ثالثة لديها مشاعرُ وأحاسيسُ حيةٌ، لكنها توظِّفُها في خدمة الحقِّ دون تهوُّرٍ، وفي فضحِ الباطل دون تشنُّجٍ.

أيها المؤمنون: إن أيامَ الفتنِ شديدةٌ على النفوسِ لما فيها من الهَرْج والقتل، والخوفِ والقلق، واختلاطِ الحقّ بالباطل، ومن حقِّ المؤمن أن يتخَوَّفَ على نفسِه وعلى إخوانه من ملابساتِ الفتن، ولكنَّّ الفتنَ والنوازل كذلك فيها تجديدٌ للإيمان، وفيها إحياءٌ لمعالمَ في الدين - من ولاءٍ وبراءٍ، وخَشيةٍ وتوكل، وصبرٍ ومصابرة، ونُصرةٍ أو مظاهرة .. ومن هنا تتحوَّلُ المِحنُ إلى مِنَحٍ ربانية لمن وفَّقَهم اللهُ للحقِّ وهداهم للصراطِ المستقيم.

وفي أواخرِ القرنِ السابعِ للهجرة هجمَ التترُ على بلادِ المسلمين فكانت الفتنةُ


(١) سير أعلام النبلاء ١٧/ ٤١، فقه الائتلاف ص ٣٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>