للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الخطبة الثانية]

الحمد لله رب العالمين، أسبغ على عباده من النعم ما لا يُعَد ولا يُحصى، وهل اللسان إلا آية ونعمة علتْ بها كفة أقوام، وخفت بها موازين آخرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يُبح لأحد من خلقه أن يتقول عليه، ولو كان صفيَّه وخليلَه، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (٤٤) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (١). فكيف بالآخرين.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدبه ربه فأحسن تأديبه، فلم يكن سبَّابًا، ولا فاحشًا، ولا لاعنًا، اللهم صلى وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى عباد الله الصالحين، أولئك الذين امتدحهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (٢).

أما بعد، عباد الله، فإن القلوب الكبيرة تترجمها الألسنة الصادقة التي تحترق لآلام الآخرين، وتُسَرُّ لنجاة المسلمين من العذاب المهين، حتى وإن احترقت في سبيل نجاتهم كالشموع تضيء للآخرين، وتحرق نفسها. وهل تخرج الكلمة الصادقة إلا بجد واجتهاد، وتجرد وإخلاص، وانتصار في معركة الهوى والشيطان، وحظوظ الدنيا. أما الألسنة الكاذبة، فهي لوحة كاشفة لمخبئات الصدور غالبًا، وهي أسلحة فتاكة تهلك الحرث والنسل، تزرع الضغينة، وتنشر بذور الفتنة، وتضلل العامة، وتسيء إلى الخاصة، وفرق بين الثرى والثُّريَّا ...

إخوة الإيمان، ولا ينتهي أثر الكلمة الصادقة في هذه الحياة، فكم من رجال ونساء غيَّبتهم اللحود، وباتوا رممًا باليةً من أثر الأرض والدود، ومع ذلك بقيت


(١) سورة الحاقة، الآيات: ٤٤ - ٤٦.
(٢) سورة الفرقان الآية: ٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>