للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سحاب إنعامه وفضله، ويكشف عن مظالم الرعايا، ولم يزل كذلك إلى ليلة السبت سادسة صفر، فأصابته الحمى، ولم يزل المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح السابع والعشرين من شهر صفر من سنة تسع وثمانين وخمس مائة، ولم يصب المسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وارتفعت الأصوات بالبكاء، وعظم الضجيج عند ما أخرج تابوته، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها، وذكر بعضهم أنه بقي مدفونا بقلعة دمشق إلى أن بنيت له شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها يوم عاشوراء من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة، ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان، وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام: [من الكامل]

ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام

تغمده الله برحمته، لقد كان من محاسن الدنيا وغرائبها، ومن مصالح الأمور الدينية ودفع نوائبها.

قال الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي: (كان صلاح الدين كاسمه؛ لما فتح من بلاد الكفار وعمرها بالإسلام، وما له من محاسن الأحكام، وما تضمنه فعل المعروف من النفع العام) (١).

وله من المآثر الدينية المدرسة الصغرى بالقرافة المجاورة لضريح الشافعي رحمه الله، ومدرسة بالقاهرة جوار المشهد المنسوب إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأوقف على ذلك وقفا جيدا، وجعل دار أسعد السعداء خادم المصريين خانقاه، ووقف عليها وقفا طائلا، وجعل دار عباس بن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد، وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفا للشافعية، ووقفها جيد أيضا، وله بمصر أيضا مدرسة للمالكية، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستانا له وقف جيد، وله بالقدس مدرسة وخانقاه وقفهما كثير، وغالب هذه الوقوفات والمدارس غير منسوبة إليه في الظاهر، ولا يعرف أنه أنشأها إلا من له اطلاع على التواريخ.

وكان رحمه الله تعالى مع اتساع مملكته وعظيم سلطانه ورفيع مرتبته كثير التواضع واللطف، قريبا من الناس، رحيم القلب، كثير الاحتمال والمداراة، يحب العلماء وأهل الخير ويحسن إليهم، ويميل إلى الفضائل، ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في


(١) «مرآة الجنان» (٣/ ٤٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>