للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والعبادة، فصالح غرماءه، وقضى ديونه، ثم ارتحل إلى قفر حاشد، وهو موضع لا يسكنه إلا الوحوش كالأسود وغيرها، ويسكنه البدو على حذر من الأسود، قال: فلما وصله وعزم على دخوله .. لم يهب شيئا، ولا داخله فزع حتى وصل إلى شجرة تحتها عين ماء تجري، قال: فأقمت عندها أربعين يوما والأسود تمر بي يمينا وشمالا ولا أهابها، وإنما هي عندي كالغنم، وأنا أقتات من الشجر، وأصلي ما استطعت، ثم سمعت صوت جماعة يقرءون القرآن، وآخرين يسبحون بنغمات طيبة، وكانت قد سقطت قواي من عدم الطعام، فحين سمعت الأصوات انتعشت قواي، فجعلت أسير وأتتبع الأصوات، فلم ألق أحدا، فقلت في نفسي: لو كان فيّ شيء من الخير .. لكنت ألقى القوم ولم يحتجبوا عليّ، فسمع قائلا يقول: يا فقيه علي؛ إن الله لم يستعملك لهذا، عد إلى بيتك، وانشر العلم، فهو أفضل من العبادة التي أقبلت عليها، فقلت له: سألتك بالله الذي أعطاك ما أعطاك، هل أنت إنسي أم جني؟ فقال: بل إنسي، فقلت: أظهر شخصك، فظهر رجل في صورة حسنة عليه مدرعة وقلنسوة، الجميع من صوف، فسلم، ورددت عليه، ثم أعاد علي ما كان كلمني به غيبا مشاهدة، فقلت في نفسي: لعل هذا شيطان، فقال: والله ما أنا بشيطان، ولقد نصحتك، فإن شئت .. فأقم، وإن شئت .. فرح بعد استخارة الله تعالى، ثم غاب عن بصري، فصليت الاستخارة، فلم أكد أفرغها حتى عرض بخاطري ذكر ابنة لي صغيرة كنت محبا لها، فلم أطق الوقوف بعد ذلك، بل عزمت إلى منزلي، فلما أخذت في ذلك ..

داخلتني الوحشة من القفر، وصرت كلما سمعت حركة في طريقي .. ارتبت منها وأنا مع ذلك سائر حتى أتيت البيت.

فلما قرب من المنزل .. رآه بعض من يعرفه، فبادر إلى أهل المنزل وبشرهم بوصوله، فكساه بعضهم ثوبا بشارة، فخرج الناس من القرية للقائه، فوجدوه يتلألأ نورا بحيث يعجز ناظره عن تأمله لذلك، ثم أقبل على نشر العلم بجد واجتهاد إلى أن توفي سنة سبع وخمسين وست مائة.

وكان مسكنه المعيرير-بضم الميم، وفتح العين المهملة، ثم مثناة من تحت ساكنة، ثم راءين مهملتين بينهما مثناة من تحت ساكنة-قرية من ناحية المخادر، وبها توفي، وحمل على أعناق الرجال إلى قرية المحفد، ودفن قبلي مدرسته، وقبره يزار، وتوجد منه رائحة المسك خصوصا ليلة الجمعة، وعمره ثمانون سنة) (١).


(١) «السلوك» (١٨٧/ ٢ - ١٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>