للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك قبلي؟ ! ألست الكاتب تخطب عمتي آسية، وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله بن عباس؟ ! لقد ارتقيت-لا أم لك-مرتقى صعبا، فأخذ أبو مسلم يده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور وهو آخر كلامه: قتلني الله إن لم أقتلك، ثم صفق بإحدى يديه على الأخرى، فخرج إليه الذين أعدهم وراء الستر، فخبطوه بسيوفهم حتى مات، وذلك برومية المدائن لخمس بقين من شعبان من سنة سبع وثلاثين ومائة، ولما قتله .. أدرجه في بساط، فقال له جعفر بن حنظلة: عدّ-يا أمير المؤمنين-هذا اليوم أول خلافتك، ثم أقبل المنصور على من حضره وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد: [من السريع]

زعمت أن الدين لا ينقضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم

فاشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم

وكان المنصور بعد ما قتل أبا مسلم كثيرا ما ينشد جلساءه: [من الطويل]

وأقدم لما لم يجد عنه مذهبا ... ومن لم يجد بدا من الأمر أقدما

قيل: ومن هنا أخذ البحتري قوله في مدح الفتح بن خاقان صاحب المتوكل على الله وقد لقي أسدا في طريقه، فلم يقدر عليه، ثم أقدم عليه فقتله الفتح، والمقصود منه قوله: [من الطويل]

فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربا

كان أبو مسلم فصيحا بالعربية والفارسية، خافض الصوت، حلو المنطق، راوية للشعر، عالما بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته، ولا يكاد يغضب، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يرى مكتئبا، إذا غضب .. لم يستفزه الغضب ولا يأتي النساء في السنة إلا مرة، وكان من أشد الناس غيرة، قيل له: بم بلغت ما بلغت؟ قال: ما أخرت أمر يومي إلى غدوة.

وكان ينظر في الملاحم، فوجد فيها خبره، وأنه يميت دولة ويحيي دولة، وأنه يقتل في بلاد الروم، فقتله المنصور برومية المدائن التي بناها الإسكندر ذو القرنين، وكان قد طاف الأرض شرقا وغربا، ولم يختر منها منزلا سوى المدائن، فنزلها وبنى رومية المذكورة، ولم يخطر ببال أبي مسلم أنها موضع قتله، بل راح وهمه إلى بلاد الروم، فسبحان من لا يزول ملكه.

<<  <  ج: ص:  >  >>