للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا تطمع برئاسة في بلدة فيها أبو يوسف، وقضى لأبي يوسف على زفر.

ومن كلام أبي يوسف: صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة، وكان يقول: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إن أعطيته كلك .. كنت من إعطائه البعض على غرر.

قيل: كان يجلس إلى أبي يوسف رجل يطيل الصمت، فقال له أبو يوسف: ألا تتكلم؟ فقال: متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف وقال: أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعاء نطقك، ثم تمثل وأنشد: [من الطويل]

عجبت لإزراء الغبي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما

وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما

سأله الرشيد عن إمام شاهد رجلا يزني هل يحده؟ قال: فقلت: لا، فسجد الرشيد، فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك، ثم قال لي: من أين قلت هذا؟ قلت: من قوله صلّى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات» (١) وهذه شبهة، فقال: وأي شبهة في المعاينة؟ ! قلت: ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، فسجد أخرى، وأمر لي بمال جزيل، وأن ألزم الدار، فما خرجت حتى جاءتني هدية ممن شوهد منه ذلك ومن أمه وأهله، وكان أصلا للنعمة، ولزمت الدار، فصار هذا يستفتيني، وهذا يشاورني، ولم يزل حالي يقوى حتى قلدني قضاء القضاة.

قال ابن خلكان: (وهذا يخالف ما تقدم: أنه ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء) اه‍ (٢)

ولعله ولي الآن القضاء الأكبر الذي عبر عنه بقضاء القضاة، وكانت تولية الثلاثة؛ لمجرد القضاء، ويحتمل أنه كان قد عزل في أيام الهادي، ثم قلده الرشيد القضاء عند هذه القضية، فيصدق أنه ولي القضاء للثلاثة، والله أعلم بحقيقة الحال.

قال الشيخ اليافعي: (وقول أبي يوسف: وليس لأحد أخذ حقه بعلمه .. منتقض بمسألة الظفر؛ فإن له أخذ قدر حقه، ولو قال: وليس للقاضي أن يقضي بعلمه في حدود الله تعالى .. كان صوابا) اه‍


(١) أخرجه الحاكم (٤/ ٣٨٤)، والترمذي (١٤٢٤).
(٢) «وفيات الأعيان» (٦/ ٣٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>