للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونحن نخشى أنه وارث ... ملكك إن غيبك اللحد

ولن يباهي العبد أربابه ... إلا إذا ما بطر العبد

فوقف الرشيد عليها وأضمر السوء.

وقيل: لم يكن من البرامكة جناية توجب غضب الرشيد، ولكن طالت أيامهم، وكل طويل مملول، ولقد استطال الناس أيام الذين هم خير الناس؛ أيام عمر، وما رأوا مثلها عدلا وأمانا وسعة أموال وفتوح، وأيام عثمان، فقتلوهما، ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم، وحمد الناس لهم، وآمالهم فيهم، ونظرهم إليهم، والملوك تنافس في أقل من ذلك، ووقع منهم بعض الإدلال خصوصا جعفر والفضل دون يحيى؛ فإنه أحكم خبرة، وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ بالرشيد قوم من أعدائهم كالفضل بن الربيع وغيره، فستروا منهم المحاسن، وأظهروا القبائح حتى كان ما كان.

ويحكى أن علية بنت المهدي قالت للرشيد بعد وقعته بالبرامكة: يا سيدي؛ ما رأيت لك يوم سرور منذ قتلت جعفرا، فلأي شيء قتلته؟ فقال: لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك .. لمزقته.

وكان الرشيد بعد ذلك إذا ذكروا عنده بسوء .. أنشد معلنا: [من الطويل]

أقلوا ملاما لا أبا لأبيكم ... عن القوم أو سدوا المكان الذي سدوا

ومن أعجب ما يؤرخ من تقلبات الدنيا بأهلها: ما حكى بعضهم قال: دخلت إلى والدتي يوم عيد الأضحى ضحى وعندها امرأة في ثياب رثة، فقالت لي والدتي: هذه عبادة أم جعفر البرمكي، فأقبلت عليها، وتحادثنا زمانا، ثم قلت: يا أمه؛ ما أعجب ما رأيت؟ قالت: لقد أتى علي يا بني عيد مثل هذا وعلى رأسي أربع مائة وصيفة، وإني لأعدّ ابني عاقا لي، ولقد أتى علي يا بني هذا العيد وما ثيابي إلا جلد شاتين أفترش أحدهما وألتحف بالآخر، قال: فدفعت لها خمس مائة درهم، فكادت تموت فرحا بها، فسبحان الله مقلب الدهور، ومدبر الأمور (١)!

وفي هذه السنة: توفي السيد الجليل الفضيل بن عياض، ويعقوب بن داود


(١) «تاريخ الطبري» (٨/ ٢٨٧)، و «المنتظم» (٥/ ٤٩٥)، و «الكامل في التاريخ» (٥/ ٣٤٨)، و «تاريخ الإسلام» (١٢/ ٢٣)، و «العبر» (١/ ٢٩٨)، و «مرآة الجنان» (١/ ٤٠٤)، و «البداية والنهاية» (١٠/ ٦١٩)، و «النجوم الزاهرة» (٢/ ١٢١)، و «شذرات الذهب» (٢/ ٣٩١).

<<  <  ج: ص:  >  >>