للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دليل القياس عند المتقدمين]

وما يتعلق بمسألة القياس فإن جماهير الأئمة يعتبرونه، وإن كان نقل من نقل من المتأخرين عن بعض المتقدمين الإبطال له، وهذا في مسائل بعينها، أما أنهم يبطلون القياس مطلقاً الذي هو قياس التمثيل أو الشمول فهذا بعيد؛ بل لسائر هؤلاء الأئمة -ولاسيما المحدثين الذين نسب إلى قوم منهم ما يتعلق بإبطال القياس- قول معروف فيما يتعلق بقياس الشمول.

وكأن أشد الذين كانوا يغلقون مسألة القياس من المتقدمين وممن صار له أصل مشهور في الفقه هو: داود بن علي، وتجد أن داود بن علي تكلم في النص ودليله، مع أن ما يتعلق بدليل النص ومفهومه -كما شرحه ابن حزم في سبع صور - عند داود بن علي، تجد أن جملةً كثيرةً منها هي من باب ما يسمى بقياس الشمول، وإن كان ابن حزم يحسن التباعد عما يسمى بقياس التمثيل، فإنه يقع في تقارير فقهية مبنية على قياس الشمول.

فما أصل مسألة القياس؟

هي في أصلها مسألة اصطلاح، فإنك تعلم أن القرآن ليس فيه ذكر لمثل هذه الكلمة على هذا التقرير، فإن ما اصطلح عليه هو في الحقيقة: أن القياس رد لحكم لم ينص عليه الشارع إلى آخر قد نص عليه؛ لوجود اتفاق في علته، أو في عموم اللفظ الذي رد به الحكم إلى الحكم الثاني الذي لم ينص عليه، فهو من نقل الحكم إلى الحكم لاتحاد الموجب أو لاتحاد العلة.

فالمقصود: أن الأدلة المختلف فيها كان الأئمة في الجملة يعتبرون قدراً منها.

نعم، هناك نوع من الأدلة لم يعتبره الجماهير كعمل أهل المدينة، فإن مالكاً وجملةً كانوا يقدمون هذا الدليل ويعتبرونه ويحتجون به، وجملة من الأئمة -كما نص عليه الشافعي وغيره أنهم- لا يعتبرون عمل أهل المدينة حجة.

تنبيه:

وأريد أن أنبه في مسألة ما يسمى بالأدلة المختلف فيها إلى أنه: لا يلزم أن يكون من نطق أو استعمل بعض هذه الأدلة أنه كان يراها حجةً لازمة؛ بل ربما اعتبرها حجةً محركةً إلى الحكم، مستظهرة له، أو لك أن تقول: إنها حجة ظنية، بل وربما استعمل من استعمل ما يتعلق بقول الصحابي أحياناً كما يفعله بعض الأحناف، وقد نص ابن تيمية على أن الإمام أبا حنيفة استدل بقول الصحابة في مسائل معروفة، وأن من نقل عنه من أصحابه أنه يعطل مسألة أقوال الصحابة تعطيلاً مطلقاً فإنه ليس شأنه كذلك.

نعم، هو ربما جعل قول الصحابي ليس من باب الحكم وإنما من باب الترجيح.

وهذه مسألة لابد من إدراكها لطالب العلم: أن بعض الدليل الذي يسمى دليلاً مختلفاً فيه، لك أن تستعمله إما من باب التحصيل به -أي: تحصيل الحكم به- وإما أن يكون من قرائن ودلائل الترجيح لهذا الحكم.

فمثلاً: لو سأل سائل: هل عمل أهل المدينة حجة؟

قيل: الصحيح أنه ليس بحجة، وعلى هذا الجماهير من الأئمة، لكن المسألة إذا كان قدرها على قدر من عدم النص فيها، وصار ما قضت به عمومات الشريعة موافقاً لعمل أهل المدينة؛ صح لك وأنت ترجح في هذه المسألة أن تجعل من قرائن الترجيح أن أهل المدينة النبوية درجوا على هذا العمل في هذه المسألة، فهنا لم يقع لك استدلال مباشر أو تحصيل الحكم بعمل أهل المدينة، وإنما تحصل لك الحكم بجملة من الأدلة، ربما أن كل واحد منها لو انفرد لم يكن محركاً للتمام في الحكم، ولكنها لما اجتمعت صارت من باب القرائن والدلائل المجتمعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>