للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفرق الأول: في مفهوم الدليل]

قال الزهري رحمه الله: (ليس كل شيء نجد فيه الإسناد).

هذه الكلمة لـ محمد بن شهاب الزهري -وهو إمام مدني متقدم مجمع على إمامته- تعطي إشارة إلى نوع من الفقه الذي كان عليه المتقدمون من الفقهاء الأوائل، ومعنى هذا: أن مفهوم الدليل عند المتقدمين كان عبارة عن فقه استقراء للشريعة، ولذلك فإن المتقدمين من الفقهاء وأولهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من بعدهم من التابعين والأئمة قد نصوا على مسائل الفقه، وتكلموا واطرد فقههم قبل أن كتبت ما يسمى بكتب أصول الفقه، بل حتى ما كتبه الشافعي في رسالته ليس عبارة عن نظم أصولي اطرادي على آحاد الفروع من جنس النظم الذي كتبه الغزالي في المستصفى أو البرهان لـ أبي المعالي الجويني، بل ما ذكره الشافعي في الرسالة فيه تفعيل لمسألة الفقه وشرحه، وربما تأتي الإشارة إلى مقصود الشافعي بذلك في الجملة.

إن مفهوم الدليل عند المتقدمين لم يكن مجرد النص، فإنك إذا تقلدت النص على المسألة، وجعلت لذلك نظاماً: أن ما لا نص فيه من المسائل فإنه يرد إلى أصل عام، كالاستصحاب مثلاً، أو كالقول بالبراءة الأصلية، وربما أن ما لا نص فيه أدخله بعض المتشددين في الفقه في باب الاحتياط والإغلاق ..

هذا لا شك أنه لم يكن فقهاً متقدماً، بمعنى: أن المتقدمين كانوا يأخذون النص، وكانوا يأخذون كثيراً من فقههم من قرائن الشريعة العامة، وهذا في الجملة هو الذي فات كثيراً من المتأخرين -إن لم يكن الأكثر من المتأخرين- التحصيل له، بمعنى: أن مالكاً والزهري والشافعي وأمثال هؤلاء كانوا على فقه لجملة أبواب الشريعة، وهو ما يسمى بفقه الاستقراء.

وفقه الاستقراء يحصل بوجهين: الوجه الأول: من فقه القرآن والتدبر لكلام الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كانوا عارفين بفقه القرآن من جهة أحكام القرآن نفسها، أو من جهة مقاصد التشريع في القرآن.

الوجه الثاني: أنهم عارفون بمفصل سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفقه الصحابة لهذه السنة، ولذلك مما درجوا عليه: أن كل باب من أبواب الشريعة؛ كباب الطهارة، أو باب الصلاة، أو الزكاة، تجد أن لهم قبل أن ينظروا -كما يصنع كثير ممن يطلب الفقه من المتأخرين- في آحاد المسائل الفقهية، يكون لهم نظر أول هو: تقعيد سبل الاستقراء.

هذا النظر الأول هو عبارة عن فقه أو فهم مفهوم الشارع ومقاصده في هذا الباب من الشريعة، فتجد أن باب الزكاة مثلاً فيه أصول شرعية انضبطت، وتجد أن ما يحل من المأكولات وما يحرم فيه أصول قد انضبطت، فيقعدون هذه الأصول التي يحصلونها من القرآن، ومن مجمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ من فعله وقوله وتقريره، فتجد أن عندهم في كل باب من أبواب الشريعة جملةً من الأصول.

ثم إذا دخلوا في مسألة الفروع لهذا الباب: فإذا كان الفرع فيه نص استعملوا هذا النص، ويكون هذا النص موافقاً لهذا الباب، وإذا لم يكن هناك نص لهذا الفرع؛ وذلك لأن التفريع الفقهي في الغالب لا يكون متناهياً؛ لأنه اعتبار للطارئ من أحوال المكلفين؛ ولذلك يقول الفقهاء: فإن ترك ركناً ..

فإن ترك واجباً ..

فإن سلم قبل أن يسجد للسهو ..

فإن هذه أمور تعتبر مما يطرأ على المصلي؛ فيردون هذه الطوارئ -وهي الفروع الفقهية التي تشققت في كتب الفقهاء- إلى الأصول المقررة عندهم، بل صار من فقههم أنهم لو وجدوا حديثاً فرداً -أي: من آحاد الرواية على معنى المحدثين الأوائل لا المتكلمين- في باب، وإسناده ليس بذاك التام، ولم يعتبره أئمة الشأن من جهة الصحة، ولو قواه من قواه منهم، ووجدوا أن هذا الحديث يخالف ما يتعلق بأصول هذا الباب؛ وجدت أنهم يقدمون في الحكم اعتبار الأصول في هذا الباب على اعتبار دليل تفرد به من تفرد.

مثال: عندما سئل الإمام أحمد عن زكاة حلي النساء، قال: (إن خمسةً من الصحابة يقولون: لا زكاة فيه).

فهل مذهب الإمام أحمد: أن كل مسألة للصحابة فيها قول يلتزمه؟ الجواب: لا؛ لكنه يزيد المسائل؛ بمعنى: أنه وجد أن الأصل في باب الزكاة: أن ما يتعلق بأموال القنية والارتفاق في بني آدم كمنازلهم ولباسهم ونحو ذلك لا زكاة فيه، مع أن أجود حديث في هذا الباب هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده -على المشهور عند الجمهور- هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من أشهر المفتين من الصحابة بأن حلي النساء لا زكاة فيه، وإن كان المتأخرون في كتب الأصول يذكرون قاعدة: إذا خالف الراوي ما روى فإن المقدم عند الجمهور الرواية وليس الرأي، وربما قالوا: هذا مذهب مالك والشافعي والإمام أحمد، خلافاً للأحناف الذين يقدمون الرأي على الرواية.

وهذه قاعدة متأخرة ليست محكمة، وقد قدم الأئمة فتوى بعض الصحابة التي خالفت ما نقل عنهم من الرواية، بل ربما صار عندهم -كما هو عند أحمد وأمثاله من الأئمة المتقدمين- أن فتوى الصحابي بخلاف ما نقله عنه بعض أصحابه دليل عنده على عدم صحة هذه الرواية عنه، ولذلك لما سئل الإمام أحمد عن حديث طاوس عن ابن عباس في الطلاق وهو في صحيح مسلم: (كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة).

قال الإمام أحمد: أكثر الناس يروون عن ابن عباس خلاف هذا.

فلما وجد أن الفتوى التي شاعت عن ابن عباس أنه استقر أصحابه في نقل فتواه على أنه يفتي أن طلاق الثلاث ثلاث؛ لم يعتمد الإمام أحمد هذه الرواية عن ابن عباس، مع أن مسلماً قد خرجها في صحيحه.

وبهذا يتبين أن بعض تقعيدات المتأخرين ليست من التقعيدات الصحيحة، وما كان منها ممكناً فهو في كثير من الأحوال لا يكون لازماً.

إذاً: مما يتعلق بمسألة الدليل هو هذا المعنى: التوسيع لمسألة الاستدلال عند المتقدمين على معنى فقه الشريعة، ونحن المتأخرون ندرك أنه ربما تعذر علينا أن نتصور هذا النوع من الدلالة التي لم تتحصل لكثير من المتأخرين؛ لأن الفرق بين التحصيل الذي كان عليه الأوائل يختلف عما حصله المتأخرون من الناس أكثر من أهل العلم منهم.

إذاً: ما يتعلق باعتبار قواعد الشريعة وأصولها؛ نجد أن النووي أحياناً يحاول السلوك في مثل هذا المسلك، ونجد أنه يقول -مثلاً-: سجود السهو مبني على خمسة من الأدلة هي: سنة النبي

فيرد مفصل أحكام السهو في الصلاة إلى هذه الأدلة الخمسة.

وهذا نوع من القصد الحسن، لكنه لا يصل إلى تقعيد المتقدمين.

إذاً: ينبغي على طالب العلم أن يقصد إلى فقه هذا الباب؛ حتى لا يقع في الاضطراب، بل يكون فقهه فقهاً مطرداً؛ وهو مراعاة قواعد الشريعة العامة والخاصة في باب من الأبواب.

وأؤكد على كلمة الزهري لما قال: (ليس كل شيء نجد فيه الإسناد).

<<  <  ج: ص:  >  >>