للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقط؛ وإنما يزيد منه وجود تيار عريض وكبير يعارض هذه الاتجاهات العلموية في باب الأخلاق -كما في غيره- ومن هؤلاء مثلًا التيار العقلي والمثالي الواسع، يشتركون في إنكار أن تكون "التجربة بمعناها الضيق مصدرًا للمعرفة بالحقائق الثابتة والقيم المطلقة على السواء، أو وسيلة لإدراكها، بل العقل أو الحدْس أو الوعي هو أداة إدراكها واكتشافها. والقيم عندها ليست عارضة، لا تقبل شكًا أو جدلًا أو تحتمل تناقضًا، تكاد تشبه بديهيات الهندسة ومصادراتها" (١)، ويقف على رأس هؤلاء الفيلسوف الألماني "كانط" الذي يرى بأن الأخلاق معيارية (٢) ولكنه يرى الدين تابعًا للأخلاق كما سبق.

وفيهم من مثّل اتجاهًا روحيًا فلسفيًا مثل "لافيل" مدافعًا عن القيم التي يتهددها الخطر "وينعي لافيل على التجربة العلمية، أو ما يمكن أن يُسمى بالوضعية المنطقية، قصورها في وقوفها على السطح، وإنكارها للأعماق، وما يستعصي على التعبير، وما يسمو من الأمور، فقد نشأت هذه النظرة عن سوء فهم لحدود المنهج العلمي من جهة، وعن روح الاستهتار العام التي قضت على جدية الحياة من جهة أخرى. وهذا الاستهتار لا يتخذ مكانه في المجال العقلي بل في مجال الأخلاق والدين؛ أي: في مجال القيم" (٣).

ومع ذلك فهذا المجال لم يكن أحسن حالًا من سابقه، فمدارسه أكثر ونظرياته أشد في التعارض، فما أحيل على العقل لوحده فباب التنوع فيه أكثر، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على حاجة الناس لمخرج من هذه الفوضى، وهي تؤكد من جديد أهمية عودة هذا المسار المهم للدين.

[٤] لا يخلو بحث في ميدان الأخلاق من ذكر ثلاثة مواقف في الفكر المعاصر كان لها أثرها الخطير على مبحث الأخلاق، اثنان منها على صلة


(١) نظرية القيم في الفكر المعاصر، قنصوه ص ١٠٤، عن الطويل، الفلسفة الخلقية ص ١٢٥ - ١٢٦.
(٢) انظر: المرجع السابق ص ١٠٥ - ١٠٧.
(٣) المرجع السابق ص ١٢٣ - ١٢٤، وأصحاب هذه النزعة مجموعة من المفكرين الفرنسيين لهم ميول كاثوليكية تأثر بها بعض العرب، انظر: النظرية العامة للقيمة .. ، د. أحمد عطية ص ٣٣١ - ٣٣٥، وحول "لافيل" و"لوسين" من هذه المدرسة انظر: العمدة في فلسفة القيمة، د. عادل العوا ص ٢٣١ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>