للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ارتبط موقفه الأخلاقي بمذهبه الإلحادي الصارخ، الذي صدم به الوعي الغربي، وهو وعي يعاني من فقد الدين، ولكنه لم يعلن هذا الإعلان الذي أعلنه نيتشه عندما قال بأن الإله قد مات، متبجحًا بأننا "حين ننكر وجود الله، وننكر مسؤوليته، إنما ننقذ العالم ونطلق القوة الإبداعية الهائلة الكامنة في أعماق إرادة الإنسان التي عاقتها المذلة والهوان أمام قدرة إلهية مدعاة" (١).

يعترف الاتجاه "الوجودي" بالأزمة التي تتحقق من أفكار نيتشه ولاسيّما في جانبها الإلحادي، مع مشاركة أغلب الوجوديين رأيه الإلحادي، فهم يشعرون بالفراغ الذي يحدثه الإلحاد على عكس دعوى نيتشه أنه يطلق قوى الإنسان؛ ولهذا يبرز في فكرهم الموت والقرف والغثيان والقذارة والتشاؤم والقلق والحيرة وغيرها، وينطلق موقفهم القيمي من هذا التيه، فالإنسان موجود في هذا العالم وجودًا ذاتيًا حرًا لا علاقة له بشيء، وعليه أن يعيش حريته، يلحق بهذا الوقت الممنوح له، ولهذا يصعب تقبلهم للقيم والأخلاق؛ لأن معنى ذلك تقليص حريته، وهذا ما ذهب إليه عبد الرحمن بدوي (٢)، وهذا الإعلان النيتشوي والوجودي عن الإلحاد ربما كان مضمرًا في الفكر الغربي من أيام فكر التنوير العلماني القائم على إبعاد الدين عن الحياة، فجاءت النتيجة المنطقية لهذا الإبعاد في مواقف "نيتشه"؛ فحقيقة الدين هي الإيمان بالله، فإذا كانت الحياة قائمة على العلمنة؛ فما عاد هناك مكان للدين، ومن ثم لم يعد هناك مكان للإيمان بالإله، فليس له وجود في حياتهم، فكان إعلان "نيتشه" وبقية الملحدين في الغرب نتيجة واضحة لواقع الفكر والحياة العلمانية، ويُنقل عن "سارتر" ترديده لمقولة نيتشه: "لقد مات الله. . . . حاول هيجل أن يستبدل به مذهبًا، غير أن المذهب قد انهار، كما حاول كونت أن يستعيض عنه بدين الإنسانية، ولكن الوضعية قد تهاوت. . . . لقد مات الله، بيد أن الإنسان لم يصبح ملحدًا، فصمْتُ الوجود قد اقترن دومًا بالحاجة إلى الدين في نفس الإنسان الحديث". ويشارك سارتر بأن هذا الرأي يكشف عن غيبة كل عون يبرر للإنسان أفعاله، ويقدم له النصح والهداية،


(١) المرجع السابق ص ١٥٨، وانظر حوله أيضًا: المذاهب الأخلاقية .. ، د. العوا ٢/ ٢٩٤ وما بعدها، وقد حظي "نيتشه" باهتمام من قبل المتغربين بداية بالدارونيين مثل: "سلامة موسى" وغيره، ثم ظهرت المؤلفات حوله مع ترجمة كتبه.
(٢) انظر: المرجع السابق، قنصوه ص ١٥١ - ١٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>