للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعملية التوفيق هي منهج تاريخي مشهور، فقد كانت مشكلة التعارض قبل ظهور العلم الحديث تقوم بين ما يتوهم تعارضه بين الدين والعقل، وهو الآن ينتقل إلى ما يتوهم تعارضه بين الدين والعلم. ولم يكن "كبلر" الأول أو الوحيد في هذه المحاولة، وقد سبقه إلى ذلك "رتكس" (١٥١٤ - ١٥٧٤ م) أول أتباع كوبرنيكوس وأشدهم حماسة له، حيث كتب رسالة "حاول فيها التوفيق بين الكتاب المقدس والنظام الكوبيرنكي الجديد. وهذا يعني باختصار أن الصدام بين النظام الجديد للعالم والآراء اللاهوتية المعتمدة -وهي مزيج من النصوص المقدسة والأرسطية التقليدية- شكل عقبة كَأْدَاء أمام قبول النظام الكوبيرنكي، وكان لا مفر من أن يصل هذا الصدام إلى لحظة المواجهة الحاسمة -إما في أثناء حياة كوبيرنكس أو بعد ذلك بقليل- كما حدث فعلًا مع غاليليو. ." (١).

وستبرز أيضًا جهود التوفيق في آخر المطاف مع "جاليليو" في عدّة محاولات، والملاحظ هنا بأن أصحاب المحاولات ليسوا رجال الكنيسة أو من المدافعين عن الدين، بل هم رجال الفلك المدافعون عن العلم، بعكس ما يُرى من صور حديثة بعد الانتصار الذي حققه علم الفلك ومن بعده انتصار النظام العلماني في الغرب، وهذا الانتصار قاد الكنيسة إلى عزلة، مما دفع البابا ليون الثالث عشر (١٨٩٣ م) والبابا بنوا الخامس عشر (١٩٢١ م) في رسالتين لهما إلى

قصر "تطبيق نصوص الكتاب المقدس على الأمور الدينية" (٢).

وفشل منهجية التوفيق من الطرفين -علماء الفلك وغيرهم أولًا ورجال الكنيسة ومن في حكمهم ثانيًا- يعبر عن مشكلات خاصة في منهجية التوفيق؛ لأنها في الغالب تعبر عن حالة الضعيف أمام القوي، وليست ميزانًا بين الحق والباطل أو الصواب والخطأ أو بين الأمور المشتبهة؛ ولذا لا يلجأ إليها إلا من كان مُستضعفًا، بخلاف القوي الواثق من مبدئه وما هو عليه، وهناك دون شك إلى جانب المشكلات الداخلية بمنهجية التوفيق مشكلات خارجية ترتبط بالتطورات الخاصة بالمجتمع الغربي أسهمت في فشل مشروع التوفيق، وجعلت كل طرف يتحرك في مجاله دون تدخل في الطرف الآخر.


(١) فجر العلم الحديث، هف ص ٣٥٦.
(٢) انظر: غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما فريش ص ٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>