للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الواضح عند الوضعيين إفقارهم العقل وحصره في أبواب ضيقة ومنعه من التوسع، وله حسناته وسلبياته، ولكن الخطأ هو إخراج الدين من مجال العقل؛ وذلك أن الدين قد جاء بأعظم الأدلة العقلية التي يصل بها العاقل إلى الحق، وقد سبق بيان ذلك في الباب الثاني، والخطأ الأعظم هو جعل الدين يوازي الأدب الفن، فيُحبس هناك ويمُنع خروجه من تلك الدائرة غير البرهانية "إن المكان -أي: مجال العقل- لا يدخله إلا من في يده جواز دخول إليه. وليس للدين أو الإيمان جواز دخول إلى بيت العقل. في الدين أنت تؤمن بالآيات الكريمة أو بوجود الله، دون أن تطلب انتقالات استدلالية أو برهانية" (١).

تجاهلت هذه الرؤية -حول مجال العقل- القسمة الأصوب، فإن العلم قد يكون مصدره الاستنباط كالرياضي، وقد يكون مصدره الاستقراء والحس كالتجريبي، وقد يكون مصدره الخبر الصحيح كالنبوات وما فيها من دين، فإن الخبر المتواتر أقوى من الرياضي والطبيعي، والنبوة حدث وقع وانتهى فلا يُطلب فيه الإثبات بالتجريب؛ لأنه لا نبي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المطلوب هو صحة الخبر، وبهذا يكون الخبر ذا حقيقة موضوعية خارجية، ولا يرتبط قبوله بالوجدان فقط مثل قصيدة بلمعة البرق فيُقبل أو يرفض، وإنما بإثبات صحته عن طريق التواتر، وعلى هذا فالتصور لهذه الثنائية غير سليم.

وكما وقع الإشكال في التصور الثنائي وقع في طريقة التوفيق بين المتعارضين، فهو يذكر ضرورة الجمع بين الشرع والعقل ولكن كيف؟ "فنقول: إن أهم ما وصل إليه "العقل" البشري، بحركته الاستدلالية التي أشرنا إليها، هو "العلوم" وماذا يكون أي علم إلا مجموعة أحكام، أو قوانين، استدلها الباحثون من الظواهر التي تقع في مجاله؟ فإذا كان هنالك نص شرعي، فيه ما يتصل من بعيد أو من قريب، بموضوع ذلك العلم، فإن "العقل" يقضي بألا يتناقض فهمنا للنص الشرعي مع ما قد قرره جانب العلم، وإلا كان العقل هنا بمثابة من يحكم بالصواب للنقيضين معًا وفي آن واحد" (٢)، وهذا القسم الذي يتحدث عنه يناسب


(١) المرجع السابق ص ١٥٢، والجملة المعترضة من الباحث.
(٢) رؤية إسلامية، د. زكي نجيب ص ٢٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>