للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تنطلق الدارونية العربية المتغربة من هذه النقطة الإلحادية لتتوسع في ماديتها وإلحادها، وأجد أن كثيرًا من الدراسات انخرطت في الاعتراض عليهم مستشهدة مثلًا بوجود علماء أحياء رفضوا هذه النظرية، ولكن مثل هذا الجدل سيبقى دون نهاية إذا بقي الإطار للفريقين مختلفًا، فأهل الدين يقرون بوجود الرب سبحانه وبما أنزله على أنبيائه ورسله من الوحي، وأن هذا الوحي هو الحق، بخلاف الماديين فهم لا يقرون بكل ذلك، وسيبقى علم الأحياء بين نظريات تتجاذبه، تُعارض غالبًا عقيدة الخلق للإنسان وبقية المخلوقات الحية بما أنه علم يتحرك في الإطار العلماني المادي، ومع ذلك وبسبب المنهجية العلمية ففيها أشياء صحيحة، مما يجعلها ملتبسة، لهذا قد يظهر في ناقدي النظرية من ينقدها بكل ما فيها رغم أنها نظرية مجملة فيها عناصر صحيحة وظفت توظيفًا غير صحيح، كما أنه قد يظهر من يسلم بها ويبدأ في محاولة التوفيق بينها وبين الإسلام حتى لا ينفتح المجال للملحدين، أو حتى يرى العالم توافق الإسلام مع العلم، مع أن فيها ظنيات كثيرة بشهادة فلاسفة العلم، وقد وقع في تاريخ الفكر المعاصر هذا وهذا، فكما وظف التغريبيون النظرية فيهدمون الدين بأسلوب أيدلوجي ومذهبي صرف؛ كان هناك من المسلمين من أراد التوفيق بينها وبين الإسلام دون التأكد من صحتها والتثبت عبر المتخصصين من علماء الأحياء والكيمياء والجيولوجيا والوراثة وغيرها من العلوم، بحيث يفرقون بين الحقائق العلمية والفرضيات والأفكار الفلسفية المرتبطة بها، فيكون تقريبها من التصور الإسلامي مبنيًا على علم، إذ لا تكفي النية الحسنة في هذا الباب ما لم يصاحبها العلم الصحيح (١).

وكان الأقرب والأفضل في هذا الباب -والله أعلم- أن يتفرغ الخطاب الإسلامي لنقد تلك التشوهات المرتبطة بالدارونية العربية (٢)؛ لأنها الأوضح، دون الدخول في إبطال النظرية أو تصحيحها أو التوفيق بينها وبين الإسلام، كان بين أيدينا أمر في غاية الوضوح وهو الإلحاد والمادية، فكان الأجدر دفعه


(١) ممن رفضها الشيخ جمال الدين الأفغاني في كتابه "الرد على الدهريين"، وممن سعى للتوفيق بينها وبين الإسلام: إسماعيل مظهر والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ طنطاوي جوهري والشيخ حسين الجسر وحفيده نديم. انظر الجمع التوثيقي الموسع لهذه المسألة في كتاب: أصل الإنسان بين العلم والفلسفة والدين، د. سامي عابدين.
(٢) هذا ما تميزت به كتابات محمد قطب عن الدارونية في عدد من مؤلفاته.

<<  <  ج: ص:  >  >>