للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما تبعها من تطور العلوم يأتي عصر الوضعية. ويُعدّ الانتقال من عصر لآخر انتقالًا حتميًا، ولا يمكن الرجوع للعصر السابق، وبهذا فإن الدين لا مكان له في عصر الوضعية؛ لأنه عصر العلم.

هناك من بيّن فيما بعد سذاجة هذا القانون، فإن المرحلة التي وصفها بأنها لاهوتية قد عرفت علومًا دقيقة متطورة، والمرحلة الوضعية التي يعيشها عرفت طقوسًا دينية بدائية أو شبه بدائية من وثنية وغيرها حتى ضمن الهلوسات الأيديولوجية الغربية، وكذا مع تطور علم الأنثربولوجيا ظهرت معارف جديدة تبطل قانونه. وليس المقام موطن ذكر فلسفته وما اعترض عليه، وإنما المقصود بأن "كومت" أراد أن يجعل من نفسه نبي العلم وفيلسوفه، وكأنه بدينه الذي أطلق عليه الوضعية سينسخ الأديان السابقة، وقد وصل الأمر معه ومع أتباعه إلى "إقامة ما يشبه كنيسة ترتكز على عقيدة رسمية تؤمن بالتقدم والعلوم الطبيعية والإنسانية. وإنكار رسمي وحاد للرب المسيحي. وكان كونت ذاته هو المبشر الأعظم بهذه العقيدة الوضعية، بما لها من كنائس منظمة، والتي انتشرت وساد فكرها بين جماعات أخرى متباينة. . . ." (١).

وهكذا تجتمع كبرى تيارات الفكر في القرن (١٣ هـ - ١٩ م) في دفع المجتمع نحو اللادين، وطبعت المجتمع بطابع الوضعية لاسيّما مع انتشار كنائس كومت "أو الكنائس الكومتية" في الغرب، مما جعل أحد المؤرخين المشهورين للفكر الغربي يتساءل ويقول: "فنحن لا شك نتفق مع كومت على أن المدنية الغربية هي مدنية "وضعية". وهنا يبادرنا السؤالان التاليان: هل يمكن أن تكون لنا مدنية لا تؤمن بالله ولا بالميتافيزيقا، بل تؤمن بالعلم والتكنولوجيا اللذين يفيان بحاجاتنا أحسن إيفاء، ولكنهما لا يوفران لنا أية قيمة أو فعل، ما عدا أنهما يسدان المزيد والمزيد من احتياجاتنا؟ وهل محكوم على المجتمع الحديث أن يكون مجتمعًا انقساميًا لا وحدة له ولا روح ولا قيم؟ " (٢)، وقد كان


(١) تشكيل العقل الحديث، راندل ص ٢٩٨ - ٢٩٩. وانظر: رونالد، السابق ص ٤٠١، ومقدمة في علم الاستغراب ص ٢٩٠، وقصة الفلسفة، ديورانت ص ٤٥٥، وتاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص ٣٢٧، وانظر: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، أندريه كريسون ص ٣١٩، وص ٣٧١.
(٢) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص ٤٠٢، وانظر: ص ٤٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>