للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبما أن العلم هو الحصان الأسرع في أوروبا فلابد من امتطائه؛ عندها اتجه الماديون إلى العلم يبحثون عن أدلة تدعم ماديتهم، فيجمعون بين الشبهات العقلية والاستغلال لثمار العلم، وعندما يدعمون مذهبهم بشواهد علمية فمن ذاك الذي يستطيع الاعتراض بعدها؟!

لكن رواد الثورة العلمية وعلماءها كانوا خلاف الماديين يرون علومهم لا تتعارض مع الدين، ويعلنون إيمانهم بالله سبحانه، ويقرّون بوجود حقائق دينية وغيبية غير المادية، وهذا الوضع قد عكّر الجوّ على الماديين فترة "كوبرنيكوس" و"كبلر" و"جاليليو" و"نيوتن"، فلم يظهر وقت الثورة العلمية عالم مادي المذهب يدعي بأن العلم يبطل الدين أو يصدق دعاوى المادية، بل نجد في أوائل الماديين المحدثين المصاحبين لتلك الثورة العلمية من يجمع بين تصوره المادي من جهة وبين إقراره بوجود الرب سبحانه، مثل الفيلسوف الفرنسي المادي والقسّ في الوقت نفسه "غاسندي" (١٥٩٢ - ١٦٥٥ م) المعاصر لـ"ديكارت" والمحيي لمادية "ديمقريطس" و"إبيقور" الذرية والمتأثر "بجاليليو" (١). ومع ذلك فقد حدثت تغيرات كبيرة في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر من جهتين: فبعض العلماء مالوا نحو المادية ووظفوا علومهم في خدمة التصور المادي، وفي الوقت نفسه بدأ الماديون يتخلصون من بقايا ما يعتقدونه من الدين وفي رأس ذلك مسألة الإيمان بالله سبحانه، ليجتمع الطرفان في إبراز صورة مادية ملحدة واحدة.

[مادية القرن الثامن عشر والتاسع عشر]

كان القرن (الثاني عشر هـ - الثامن عشر م) قرن المخاض العسير، فهو أولًا من الناحية العلمية قرن فيزياء "نيوتن" وطبيعياته التي وجد فيها الماديون الأدلة العلمية الكافية كما يزعمون للتخلص من بقايا الدين، وهو أيضًا كان عصر التنوير الثائر فكريًا واجتماعيًا على الدين في صورته الكنسية الذي خُتم بالأعمال الخبيثة لـ"فيورباخ" معلنًا الحد النهائي للعلاقة بين المادية والدين، فالمادي في نظرهم لابد أن يعرف بأن الدين بما في ذلك الإقرار بوجود الله سبحانه إنما هو وهم بشري وخرافة لا يمكن استمرارها في زمن العلم المادي الذي سيعقبه القرن


(١) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص ٨٧، وانظر: تمهيد للفلسفة، د. حمدي زقزوق ص ١٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>