للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانت الفيزياء أهم العلوم الطبيعية في الصراع بين المادية والمثالية (١). فمن يتأمل واقع الفكر الغربي يعلم بأن الفيزياء كانت أهم العلوم في معاركهم الفكرية بما في ذلك موقفهم من الدين -ضدّه أو معه- من نيوتن إلى أينشتين. ومع ذلك فقد يُدرس هذا العلم في بلاد المسلمين دون الوعي بكل هذه الأبعاد التي خاضتها الفيزياء الحديثة والمعاصرة داخل الفكر الغربي بين تلك الأطراف المتصارعة.

وقد كان أهم ما قدمته الفيزياء الحديثة للعالم هو مفهوم القانون العلمي الذي يفسر أو يعبر عن السنن الكونية، فإن تاريخ الفكر البشري لم يجهل بأن العالم يسير وفق سنن مطردة، وهو أمر جاء به الدين وأثبته، ولكن لم يستطع أحد اكتشاف قوانين تعبر عن تلك السنن ويمكن بعد ذلك تطبيقها على كل الصور المشابهة، إلى أن جاء "كبلر" ليعلن قوانينه الثلاثة التي تشرح وتفسر حركة الكواكب، وأمكن -بعد تحسينها- التنبؤ بكل حركاتها، ومن ثمّ وضعها في جداول دقيقة. تبعها فيما بعد قوانين الميكانيكا عند جاليليو إلى أن جاءت أهم الصياغات مع نيوتن (٢). ولم تكن مثل هذه الاكتشافات لتتعارض مع الدين وما يثبته الوحي بقدر ما هي إعلان لسنة من سنن الله سبحانه في الكون برموز رياضية، وهي مدعاة حقيقية لتعظيم خالقها وموجدها وحافظها وهو الرب سبحانه، ولكن الماديين كان لهم رأي آخر؛ فهم يقولون لخصومهم المقرّين بوجود الرب سبحانه: إنكم تقرون بوجوده من أجل دعم حركة الكون وحفظه، ولكن هاهم علماء الكون والفيزياء قد اكتشفوا قوانين حركتها، وعلمنا أنها تتحرك وفق آلية واحدة، والعالم ما هو إلا مادة وحركة، والمادة يعرفها الجميع، أما الحركة فهاهي قوانين الفيزياء تفسرها تفسيرًا كاملًا، مما يعني أنها في غير حاجة لتدبير خارجي أو رعاية غيبية، وقد رأينا الصورة التي رسمها العالم والفيلسوف الفرنسي "لابلاس" في الفصل الأول. وقد كان أهم من خدم التصور الآلي من الناحية الفكرية والفلسفية ديكارت، ويعترف الماديون عادة بهذا الجميل له، حيث أخرج صورة آلية للكون مستفيدًا من الثورة العلمية في قالب فلسفي،


(١) انظر: أضواء على الفكر الماركسي. لينين (المادية ومذهب نقد التجربة)، ص ٢١٧، إعداد توفيق سلوم.
(٢) سبق عرض ذلك في الفصل الأول.

<<  <  ج: ص:  >  >>