للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العقلية والعلمية الحديثة ما هو أكثر تطورًا واكتمالًا مما عُرف عند الماضين؛ لذا يكون أهل العصر أولى بالتأويل من القدامى. وعندما يكون العالِم منهم أقرب للمتكلمين؛ تجده أكثر تساهلًا في باب التأويل مثل الشيخ محمَّد عبده، فمع أنه على طريقة صوفية أول حياته وعلى المنهج الأشعري من جهة المعتقد؛ إلا أنه بعد احتكاكه بالأفغاني مال إلى التصوف العقلي وتأثر بالفلسفة والاعتزال فضلًا عن مذهبه القديم، فمال إلى التأويل. أما إذا كان العالم منهم أقرب للمتصوفة، فتجده أكثر احتياطًا في باب "التأويل" وأقرب إلى "التفويض" وتعظيم النص، كما هو واضح مثلًا مع الشيخ حسين الجسر، فهو شيخ الطريقة الرفاعية مع ما اشتهر عنها من هرطقات يظهر -بحسب كلام تلميذه محمَّد رشيد رضا- أنه ينفر منها ولكنه لا يستطيع المجاهرة بمعارضتها، فقد لاحظت أن هذا الشيخ يحرص على "التفويض" في الأمور التي يشعر بأنها تتعارض مع أصل ديني أو نص شرعي، وإذا انصرف إلى التأويل فمع كراهة واحتراز وتحوط واضح.

لم يكن علماء هذا الموقف على صلة ومعرفة بـ" الاتجاه السلفي"، وكان زمنهم زمن التشويه للاتجاه السلفي، حيث كانت آلية التعصب قد دفعت بأصحابها إلى اختلاق الأكاذيب حول هذا الاتجاه والقيام بحملة إعلامية خطيرة، شاركت فيها قوى سياسية آنذاك، لدرجة أن كتب ابن تيمية يحذر منها ويمنع من قراءتها ويتهم من عرف عنه الاهتمام بها، ولا يصل إليها بعضهم إلا عن طريق الاحتيال. فانصرف أعلام هذا الموقف إلى المنهج (التوفيقي/ التأويلي) لكونه معروفًا في بيئتهم الدينية والعلمية، ووجدوا فيه حلًا للمعضلة التي أغرقت الشباب المثقف في بيئاتهم آنذاك.

لقد ظهر هذا التيار ليواجه مشكلة حقيقية عصفت ببيئتهم، ومن طبيعة المشاكل أنها توقع الحيرة حتى عند الحكماء فيطرحون حلولًا ناقصة أو ضعيفة، فكيف وأصحاب هذا التيار ينتمون لإرث ديني وثقافي معقد (صوفي / كلامي)، فيكون نظرهم آنيًا مرتبطًا بالمشكلة القائمة ورفعها. ولا أشك بأنهم كانوا في ظرف صعب، وأنهم مجتهدون في حلّ المشكلة ويرغبون في إنقاذ الأمة، ولكن صورة الحل لم تكن صائبة رغم جاذبيتها آنذاك ودورها في تخفيف المشكلة. فالذي يظهر أنهم عرضوا موقفهم كإنقاذ للمجتمع، ومحاولة لاسترداد تلك النخب من تغربها وتفلتها من الدين، وكان المجتمع هو همها لدرجة أننا لا نجد علاقة

<<  <  ج: ص:  >  >>