للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنها تعترف باستعصاء قيام مثل هذا المفهوم، فهو رغم محاذيره يخفف من ضغط التصورات الدينية الباطلة أو الفلسفات المثالية الغامضة، فقد يحرص العقلاء في طلب البعد عن الدين المحرف والميتافيزيقا والفلسفات المثالية خوفًا على العلم ولكنه يتحول لأداة مهمة عند الملحدين ومبغضي الدين وأصحاب الصراعات الكبيرة مع أهل الدين للتخلص من الدين، وهي تجد حركتها بسهولة في ميدان معقد ويهمّ الإنسان مثل باب العلوم الإنسانية، حيث تصبح الموضوعية هناك أكثر تعقيدًا واشكالًا، وفي ذلك يقول قنصوه: "إن الموضوعية في العلوم الإنسانية هي مشكلتها المحورية، وكل من يعرض لها إنما يعرض بطريق مباشرة أو غير مباشرة للصعاب التي تواجه هذه العلوم لكي تبلغ مستوى العلوم الطبيعية ونجاحها" (١).

فيكون الحرص في العالم الإِسلامي على الموضوعية بمثل هذه المضامين أمرًا مشبوهًا، ولاسيّما عندما يرفع شعاره أهل التغريب أو المتأثرين بالفكر العلماني الغربي؛ لأنه في الغالب سيتحول معهم إلى أداة هدفها تأسيس علم علماني ومنهج علماني لا يكتفي بالانفصال عن الدين بل يسعى مع ذلك لهدمه.

ذلك أن الموضوعية العلمانية في أهم مضامينها إنما تهدف إلى التخلص من الدين، سواء كان صحيحًا أم غير ذلك. فإن مصطلح الموضوعية برز مع بروز العلمانية في ساحة الفكر الغربي، ثم مع ظهور التيارات المادية والوضعية الإلحادية بما حققته من سعة انتشار في القرن الثالث عشر / التاسع عشر، وهذا الأمر يُصرّح به الباحثون في ميدان العلوم ومناهجها كما نجده عند أحدهم -جولدنر- حيث يقول: "المذهب الذي يؤمن بأن علم الاجتماع ينبغي أن يكون محايدًا قيميًا، إنما هو الامتداد الحديث للصراع القديم بين الدين والعقل، ولقد نشأ هذا المذهب وما زال يعيش على الاتجاهات التي سادت القرن الثالث عشر الميلادي لإيجاد فواصل أو حواجز بين الدين والعقل لحفظ السلام بينهما. . . ." (٢)، ولكن هذا السلام أو هذه الهدنة قد انتهى أمرها، فلم يعُد هناك حرص لحفظ السلام بعد بروز المذاهب المادية والوضعية ذات الأيديولوجيا الإلحادية.

لم تعد الموضوعية مفهومًا بسيطًا في فلسفة العلم، بل أصبحت ظاهرة


(١) الموضوعية في العلوم الإنسانية. . . .، د. صلاح قنصوة ص ٦٣.
(٢) التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية. . . .، د. إبراهيم رجب ص ١١٠ - ١١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>