للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أشاعت العلوم العصرية بين اليهود، ونقلتهم من حياة العزلة والتشرد التي عاشوا فيها قرونًا طويلة إلى تيار الحضارة الغربية الحديثة. ولد مندلسون في أحد أحياء اليهود الفقيرة بمدينة صغيرة في ألمانيا، وتلقى علوم أجداده الدينية، ثم رحل مع والده إلى برلين وهو لا يزال صبيًا. وهناك أتقن بسرعة اللغة الألمانية ثم بدأ يدرس الفلسفة والرياضيات والعلوم، وبفضل مواهبه وذكائه أصبح في وقت قصير في وسط المحيط العلمي المتنور في برلين، والذي ضم من بين من ضم الفيلسوف الألماني كانط. وهكذا أصبح مندلسون جامعًا بين علوم الدين اليهودي وفلسفة ومعارف القرن الثامن عشر، وأصبحت حياته بعد ذلك رمزًا للجسر الذي أراد أن يقيمه بين تعاليم اليهودية التقليدية وبين عصر التنوير (Enlightenment) في أوروبا.

وقد كانت جهوده في هذا المجال تتمثل في إقامة مدرسة تسعى لتعليم الثقافتين اليهودية والعصرية، وإنشاء مجلة تنشر آراءه في سبيل نهضة اليهود للحاق بركب العصر، كما ألف العديد من الكتب. كان هدف مندلسون توسيع أفق اليهود وإشاعة التعليم الحديث بينهم وإيقاظهم ودفعهم للحياة الواسعة، لقد كان شعاره في ذلك "الاستجابة لعادات وأعراف المجتمع العصرية مع المحافظة والإخلاص لدين الآباء". وقد كانت حياته تجسيدًا لهذا الشعار، فقد عاش مخضعًا قلبه لليهودية وعقله لفلسفة وعلوم العصر، ولكنه لم يدرك أنه قد ابتدأ صراعًا بين التقاليد اليهودية وبين الثقافة العصرية، هذا الصراع الذي ازداد في الأجيال التالية حدة ودفع إلى ظهور حركة التجديد الحرة.

إن اليهودية الآن تتقاسمها فرق رئيسة: فرق تقليدية، ومحافظة، وأخرى متحررة، بجانب حركة الصهيونية. وكل هذه الفرق قد اتخذت سبلًا في مجال العقائد والأعمال لإقامة التوازن المطلوب بين اليهودية وبين الحياة المعاصرة (١)، ولكن الذي تهتم به هذه الدراسة هو المفهوم الذي قدمته الفرقة المتحررة لتجديد اليهودية.

نشأت نزاعات التجديد في ألمانيا في أول الأمر بمحاولات لجعل الصلوات والأناشيد الدينية ذات جاذبية وبخاصة للشباب، لعل ذلك يقلل من


(١) Blau,p ٢٧.