للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والمتأمل في هذا التعريف يرى أنه يقوم على فرض أساسي كبير، وهو أن العصر الحاضر بظروفه وأحواله، وعلومه ومعارفه، وتقدمه وتطوره، لا يناسبه ولا يتلاءم معه الفكر الديني التقليدي القديم، الذي نشأ وتكون متأثرًا بظروف عصره السائدة فيه. وإذا كان ذلك الفكر صالحًا لذلك الزمان فإنه ليكون صالحًا لهذا العصر فلابد من إيجاد المواءمة بينه وبين الظروف الجديدة المتغيرة. وقد تكون هذه المواءمة بإعادة تفسير وتأويل بعض تعاليم الدين، ورفض التفسيرات القديمة لها، وقد تكون باطراح بعض التعاليم التي لم تعد مناسبة وتغييرها بتعاليم مناسبة. وعلى كل حال فإنه لابد من إعادة تكييف الدين على ضوء ظروف ومعارف العصر السائدة.

ومن الممكن تقسيم هذا الفرض الأساسي إلى أجزاء ثلاثة:

أولًا: عصرنا الحاضر عصر متطور متقدم، وشهد تحولات وتغيرات كبيرة.

ثانيًا: ترتبط تعاليم الدين في كل عصر بظروفه وأحواله، مما يجعل بعضها لا يناسب عصرنا الحاضر.

ثالثًا: نظرة كل عصر إلى حقائق الدين نظرة نسبية بحسب المعارف المتاحة له، وما كان يؤمن بأنه حق في عصر قد لا يكون حقًا في هذا العصر.

وبناء على التصورات الثلاثة المتقدمة، يأتي التساؤل: ما الثابت في الدين، الذي يناسب كل عصر، وما المتغير الذي يتغير تبعًا لتغير المعرفة وتغير الأحوال. وإجابة العصرانية الأولية على هذا التساؤل هي أن الجزء الإلهي في الدين الذي مصدره الوحي هو الجزء الثابت في الدين، والجزء البشري في الدين الذي كونته عقول البشر هو الجزء المتغير، ومن ثم ينبع التساؤل: ما الإلهي في الدين، وما البشري؟

هذه هي الفروض الثلاثة الأساسية التي تنبني عليها فكرة العصرانية، والسؤالان الكبيران اللذان يستتبعان تلك الفروض. وهذه الأمور الخمسة تشترك فيها كل حركات العصرانية، سواء ما كان منها في اليهودية، أو النصرانية، أو الإسلام. وإذا انحلت عقدة هذه الأمور، واتضح وجه الصواب فيها، بانت حقيقة العصرانية، وأصبح من السهل الميسور نقد المسائل التفصيلية التي تقوم عليها.