للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يقنع بأن يكون تابعًا يسير في ركاب غيره، يحفظ ويردد ما تلقنه من العلوم، بل طلب الحق بنفسه وحقق حتى استطاع أن يكشف مواطن الصواب ومواطن الخطأ في التيارات الفكرية المائجة في عصره. ويترجم الغزالي لهذا الجانب من شخصيته فيقول:

"ولم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين، إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين، اقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته، خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع" (١).

والتيارات الفكرية التي كانت رائجة في عصر الغزالي والتي تناولها بالدراسة والفحص والنقد والتصحيح أربعة تيارات: الفلسفة والكلام والتصوف والباطنية (٢). وفيما يلي توضيح مختصر لموقف الغزالي منها وكشفه لانحرافاتها.

نقد الفلسفة:

لقد شاعت الفلسفة اليونانية في عصر الغزالي شيوعًا كاد أن يهز الإيمان في النفوس، وأصبح أذكياء الأمة يقبلون على الفلسفة ومباحثها من غير تمييز للنافع منها عن الضار. وكانوا من فرط إعجابهم بفلاسفة اليونان الملحدين أن قلدوهم في كل شيء حتى في إلحادهم وكفرهم. ورغم أن الفلسفة اجتذبت عقولًا نابهة ونوابغ من الأمة الإسلامية، إلا أن دور أولئك الفلاسفة كان في أكثره النقل المحض والتقليد الأعمى. ولم تكتف هذه الطبقة من المفكرين بذلك بل حاولت تدوين عقائد الإيمان والدين على ضوء الفكر اليوناني الوثني الإلحادي، وتقديم تفسيرات جديدة لموضوعات العقائد الإسلامية (٣). وهذا الموقف الانهزامي الذي تردى فيه هؤلاء جعلهم يحاولون إخضاع الدين وحقائقه لنظريات الفلسفة


(١) "المنفذ من الضلال" الغزالي ص ١٠.
(٢) المصدر نفسه ص ١٥.
(٣) انظر على سبيل المثال: رأي ابن سينا في "معاد النفوس"، و"الأجساد" في "تاريخ الفكر العربي"، عمر فروخ ص ٤٢٢ وما بعدها.