للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شقوق يُلقى منها المال، فحمّلناها أولاداً من أولاد المدرسة، وعمدنا إلى أكياس كبيرة وضعناها على ظهور دواب من دواب القرية، وسيّرنا ذلك أمامنا وسرنا مع ذلك الحشد. وجعلت أمام الموكب من ينادي: "هاتوا قليل، هاتوا كثير ... هاتوا قمح، هاتوا شعير ... كله مليح للفقير". فكان مَن يأتي بمال يرميه في الصندوق، ومَن يجيء بحبٍّ يلقيه في الكيس. ودرنا في الأسواق، وجزنا البيوت، حتى إذا أكملنا طوافنا عدنا إلى الرحبة فقعدنا ووقف الناس من حولنا وبسطنا بساطين، فطرحنا الحب على بساط، والمال على بساط، وكِلْنا وعدَدْنا ومئاتُ العيون -من حولنا- ترقب العد والكيل. وكنا قدم كتبنا أسماء الفقراء، على درجات فقرهم، في صحيفة؛ فقسمنا المال والحب عليهم، فجعلت أنادي الفقير فأدفع له وآخذ خطه بما استلم، حتى نفد ما جمعنا.

هذا ما وثّق الناس بي، ومن قبل رأى الناس في سنة ١٩٣٠ أسلوب الأمانة في التبرع لأطفال الصحراء؛ أبناء الثوار اللاجئين يومئذ إلى وادي السرحان، وكانت قد قامت به «الأيام» أيامَ كنت أعمل فيها (١)، وكان يقوم عليها الأستاذ عارف النكدي، فكان ينشر أسماء المتبرعين وصور الإيصالات في الجريدة، فيعرف الناس طريق المال من منبعه إلى مصبِّه، فيقبلون على الدفع إقبالاً عجيباً. ولو غير النكدي تولاه، أو على غير هذا الأسلوب جرى فيه، لما أقبلوا عليه.

وأنا ما قلت هذا (يقول صديقنا القاضي ...) فخراً بنفسي، ولا مدحاً للأستاذ النكدي، بل لأبيّن أن الناس لا يزال فيهم خير، ولا يزالون مستعدين للبذل في سبيل الله، بشرط أن يثقوا بأن أيدي الجامعين أيدٍ نظيفةٌ، وأن


(١) ولهذا المشروع تفصيل في «الذكريات»، في الجزء الثاني، الحلقة ٤٤ (مجاهد).

<<  <   >  >>