للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تلك الأوامر العلية من سورة المزمل وبين ما تقدمها في الترتيب الثابت من قوله تعالى في سورة الجن: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (الجن: ٢٦ - ٢٧) ليعلم نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أمام المرتضين من أولئك المصطفين بما خص صلى الله عليه وسلم من الأمر بقيام الليل والترتيل وجليل التلقي والامتثال لما ألفي عليه اعتناء وتخصيصاً محفوظاً فيه مشيراً عليه من القول الثقيل، كما نوسب بين أمره، عليه السلام، بالدعاء والإنذار والتأنيس فيمن أفرط تمرداً وعناداً من عتاة الكفار حين قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم تهديداً لعدوه وإعلاماً بما يعقبه كفره: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (المدثر: ١١) إلى قوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) (المدثر: ١٧)، وقوله (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (المدثر: ٢٦)، فحصل من مجموع متقدم الإنذار والإعلام بعاقبة المعاندين من الكفار ما تحصل من قوله تعالى في سورة الغاشية تعريفاً لنبينا صلى الله عليه وسلم: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: ٢١ - ٢٢)، وانتظم أول (هذا) الكلام العلي وآخره أجل انتظام، وورد كل على ما يجب، ولا يلائم غيره، والله سبحانه أعلم بما أراد.

الآية الثانية من سورة المدثر - قوله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: ١٨ - ٢٠)، للسائل أن يسأل عن تكرر قوله: (قدر) ثلاث مرات في كلام متصل متقارب؟

والجواب، والله أعلم: أن قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) إخبار عن حال الوليد المنزل فيه هذا حين قال لقريش: إن الناس يريدون الموسم فليكم قولكم في محمد واحداً، وفكر في أقرب ما يمكن أن تستمال به العرب وتصدق قريشاً، ورأى الوليد أنهم مكذبون بأول نظر إن قالوا إنه شاعر مجنون أوكاهن أوساحر، ووافقته قريش لوضوح ذلك من أمره، عليه السلام، مع تصميمهم على عناده، وبهذا أنسه تعالى في قوله: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: ٣٣). وروي أن الوليد قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى.

ولما كلم قريشاً في شأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: (تزعمون أن محمداً لمجنون فهل رأيتموه يخرق، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط، وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب، فقالوا في كل ذلك: اللهم لا. وعلى هذا من كلام الوليد ورد الوارد بما جاء بطريقة ما تعجب العرب من مثله من قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: ١٨ - ١٩)، كما

<<  <  ج: ص:  >  >>