للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إن تلك الحضارة يوم أن أسقطت الدين من حساباتها، وانصرفت إلى نزواتها أيقظت في الإنسان شقه وقتلت فيه الشق الآخر أيقظت فيه شق الحيوان، فتحول إلى قطيع همه اللقمة والشهوة، والمصلحة حتى اتخمت البطون، وقتلت فيه الإنسان، ففقد المجتمع أمنه واستقامته فصار من الناس من سكن الأجداث أي: القبور وهم أحياء يتقلبون بين الأتراح والأفراح، وهم في لعبهم ولهوهم غافلون حتى يأذن الله تعالى لهم باليقظة والإفاقة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) لقد ولد الإنسان متدينًا، ولم يكن التدين نتيجة تطور وارتقاء، ولم يكن نتيجة خرافات أو أساطير أو من صنع الدهاة والكهان، ولا من صنع السحرة أو الأقوياء، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير دين كما قال الشاعر:

ومن رضي الحياة بغير دين ... فقد رضي الفناء لها قرينا

ولا حياة لمن لم يحي ِ دينَا ... .................

إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض، واستعمره فيها وجعله سيدًا، وسخر له ما في السماوات، وما في الأرض جميعًا منه من أجل أن يكون عبدًا له وحده أينما ولى فثم الله، فيسبح بحمده، ويقدسه، ويعبده، ويمجده، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦) تلك هي الغاية الكبرى، والحكمة الأولى من خلق الإنسان، وهو الذي يحتاج إلى هذه العبادة مع أنها لا تزيد في ملك الله ولا تنقصه، ولا تضره سبحانه أو تنفعه، ولكنها علامة الصدق، ورمز الوفاء {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: ٢).

والإنسان من غير هذا التوجه الكريم إلى خالق الكون ومدبره ضعيف في هذا الكون وحيد في هذا الوجود؛ لأنه يكون مبتوت الصلة بالكون وما فيه، فتتولد

<<  <   >  >>