للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[٥١٥] باب منه]

[قال الإمام]:

(سألقي) كلمة وجيزة حول أدب من آداب المجالس التي أهملها اليوم خاصة الناس فضلاً عن عامتهم، من هذه الآداب هو التجمع والتكتل والتقارب في المجلس وعدم التباعد فيه، وهذا من حِكَمِ الشريعة في كثير من أحكامها الظاهرة، والتي جاء التصريح بها في بعض الأحاديث الصحيحة، فهناك مثلاً في صحيح مسلم حديث جابر بن سمرة فيما أذكر: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دخل المسجد يوماً فرآهم متفرقين حلقات حلقات، فقال لهم: «ما لي أراكم عزين»؛ أي: متفرقين.

وأهم من هذا ما يرويه الإمام أحمد في كتابه "المسند" بالسند القوي عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: كنا إذا سافرنا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونزلنا تفرقنا في الشعاب والوديان، فسافرنا يوماً ونزلنا كما كنا ننزل، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «إن تفرقكم في هذه الشعاب والوديان إنما هو من عمل الشيطان» قال: فكنا بعد ذلك إذا نزلنا في مكان اجتمعنا، حتى لو جلسنا على بساط لَوَسِعَنَا، فما رأيكم وأنتم جالسين هنا في سطح ممهد مسهل، فهذا التفرق ليس من سنة الإسلام، ولذلك فكلما تضامت الحلقة كلما كانت مشمولة برحمة الله عز وجل وفضله، وكثير من الناس يجهلون أن هناك ارتباطا ًوثيقاً جداً بين ظاهر الإنسان وباطنه، وهذا الارتباط الوثيق مما توافرت كثيراً من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدلالة عليها، ولعلكم تعلمون العبارة التي ذكرت في كثير من الكتب: «الظاهر عنوان الباطن»، وهذا الذي أشار إليه الشاعر قديماً حين قال:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم

فلابد ما أن يكون هناك ارتباط بين الظاهر وبين الباطن، لذلك عني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عناية بالغة في إصلاح ظواهر المسلمين، فضلاً عن باطنهم، فهو عليه السلام كما جاء بإصلاح القلوب والبواطن كذلك جاء لإصلاح الأجساد والظواهر معاً، فليس الأمر فقط كما يقول كثير من الناس: العبرة بما في الباطن، نعم العبرة بما في الباطن، لكن ذلك لا يستلزم عدم العناية بالظاهر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام حينما رأى ذلك الرجل أو سمع ذلك الرجل يقول والرسول عليه السلام يعظ الناس على طاعة الله واتباع كتابه، قام ذلك الرجل ليقول له: «ما شاء الله وشئت يا رسول الله»، فغضب عليه السلام غضباً شديداً، وقال: «قل ما شاء الله وحده» (١)، هذا لفظ ظاهر ظهر من لسان ذلك الصحابي خطأً منه، لكن هذا الظاهر خلاف باطنه يقيناً؛ لأن باطنه كان عامراً بالإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولكنه لما أخطأ في اللفظ لم يسكت الرسول عليه السلام عنه، بل أصلح له عبارته وقال له: قل ما شاء الله وحده.

فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم يقيناً أن هذا الرجل ما قصد ما دل عليه لفظه، لفظه دل على أنه جعل الرسول شريكاً مع الله في إرادته تبارك وتعالى، لكن هذا الصحابي يعلم أن مشيئة الله تبارك وتعالى قبل كل شيء وفوق كل شيء؛ لأنه يقرأ في القرآن الكريم: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير:٢٩)، ولا أحد يظن أن ذلك الصحابي يجهل هذه الحقيقة، لكن أخطأه لسانه، لكن الرسول عليه السلام أصلحه إياه، ودَلَّهُ على ما يقول، قال له: «قل: ما شاء الله وحده»، وفي رواية أخرى: «ما شاء الله ثم شئت».


(١) الصحيحة (رقم١/ ٢١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>