للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويجوز كائن بتشديد الياء، ويجوز كائِن مِنْ قَرْيَةٍ، وهو عند البَصْريين

في معنى العدد الكبير، نقول: وكائن مِنْ رَجُل جَاءَنِي معناه العدد الكثيرُ مِنَ

الرجَالَ.

(فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).

والعُروش السقوفُ، فالمعنى أنها قَدْ خَرِبَتْ وخَلَتْ فصارت على

سُقُوفها كما قال في مَوْضع آخر: (فَجَعَلْنَا عَالِيَها سَافِلَهَا)، يقال خوتِ الدارُ

والمدينةُ خَواءً، ممدود، فهي خاوِية، وخَوِيتِ المرأةُ وخوِيَ الِإنْسَانُ إذا خَلَا

مِنَ الطعَامِ خَوًى، مَقْصور فهو خَوٍ.

وقوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).

أكثر ما جاء في مَشِيدٍ من التَفْسِير مُجَصَّص، والشَيدُ الجصُّ والكَلْسُ

أيضاً شِيد، وَقِيلَ مَشِيد مُحَصَّن مُرْتَفِع، والمُشَيد إذَا قيل مُجَصَّص فهو مُرْتفع

في قَدْرِهِ وَإن لَمْ يرتفع في سُمكِهِ، وأصل الشَيدِ الجصُّ والنورَةُ، وكل ما بُنيَ

بِهِمَا أو بِأحَدِهمَا فهو مُشَيدٌ.

* * *

وقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)

(وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

القلبُ لا يكون إلا في الصدْرِ - ولكن جَرَى عَلَى التَوكِيدِ كما قال

عز وَجَل (يَقُولُونَ بأفْوَاهِهِمْ)، وكما قال: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ).

وكما قرأ بعضهم: (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً).

فالتوكيد جار في الكلام مبالغ في الإفْهَامَ (١).


(١) قال السَّمين:
قوله: {التي فِي الصدور} صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ. وهل هو توكيدٌ؛ لأنَّ القلوبَ لا تكونُ في غير الصدور، أو لها معنى زائدٌ؟ كما قال الزمخشري: «الذي قد تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العمى في الحقيقة مكانُه البصرُ، وهو أن تصابَ الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ. فلمَّا أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العمى إلى القلوبِ حقيقةً، ونفيُه عن الأبصارِ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ؛ ليتقرَّرَ أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ، كما تقولُ: ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ، ولكنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ. فقولُك:» الذي بين فَكَّيْكَ «تقريرٌ لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتٌ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غير، وكأنَّك قلتَ: ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا سَهواً، ولكن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بعينه تَعَمُّداً.
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم قولَه:» تَعَمَّدْتُ به إياه «وجعل هذه العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ، وليس من مواضعِ فَصْلِه، وكان صوابُه أن يقول: تعمَّدْتُه به كما تقول:» السيفُ ضربتُك به «لا» ضربْتُ به إياك «.
قلت: وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قولِه تعالى: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: ١]، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: ١٣١]: وهو أنه مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ يمتنعُ اتصالُه، وأيُّ خطأ في مثل هذا حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه، وإن كان مُخْطِئاً في بعضِ الاعتقاداتِ ممَّا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده؟
وقال الإِمامُ فخر الدين: «وفيه عندي وجهٌ آخرُ: وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ، كقولِه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: ٣٧]. وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ، فاللهُ تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ». وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال: «هو مبالغةٌ كما تقول: نظرتُ إليه بعيني، وكقوله: يقولون بأَفْواههم». قلت: وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله «بأفواههم» زيادةً على التأكيد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

<<  <  ج: ص:  >  >>