للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عهدٍ يُهْتَضَم الْمُصِيبُ، ولكن يُعْطَى كلٌّ ما يَسْتَحِقُّ» (١).

ذلك أن نتائجَ الأفكارِ لا تنقضي لانقضاءِ عصرٍ بِعَيْنِهِ؛ بل لكلِّ عَالِمٍ ومتعلمٍ مِنْ ذلك حظٌّ بحسبِ إخَاذِهِ، وليس ثَمَّةَ ما يمنعُ أن يُدَّخَرَ لبعضِ المتأخرين ما لم يُوهَبْ لبعضِ المتقدمين، وعليه فلا عِبْرَةَ بقولِ بعضِهم: «مَا تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ»!! فإن هذه الكلمةَ بالغةُ الضررِ بالعلمِ؛ لكونها قاطعةً للآمالِ عن تحصيلِه والإضافةِ فيه، كما لا يَخْفَى. ولكن ينبغي أن يقالَ: «كَمْ تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ». والشيءُ إنما يُسْتَجَادُ ويسترذلُ لِجَوْدَتِه وَرَدَاءَتِهِ لا لِتَقَدُّمِ قائلِه أو تَأَخُّرِهِ (٢).

قال أبو محمد بن قتيبة (رحمه الله) في مقدمةِ (الشعرِ والشعراءِ): «وَلَمْ أَسْلُكْ فيما ذكرتُه من شعرِ كُلِّ شاعرٍ مُخْتَارًا له سبيلَ مَنْ قلَّدَ أو استحسن باستحسانِ غيرِه، ولا نظرتُ إلى المتقدمِ منهم بعينِ الجلالةِ لِتَقَدُّمِهِ، وإلى المتأخرِ منهم بعينِ الاحتقارِ لِتَأَخُّرِهِ، بل نظرتُ بعينِ العدلِ على الفَرِيقَيْنِ، وأعطيتُ كُلاًّ حَظَّهُ، ووفرتُ عليه حَقَّهُ، فإني رأيتُ من علمائنا مَنْ يستجيدُ الشعرَ السخيفَ لتقدمِ قائلِه، ويضعُه في مُتَخَيَّرِهِ، ويُرْذِل الشعرَ الرصينَ، ولا عيبَ له عنده إلا أنه قِيلَ في زمانِه، أو أنه رأى قائلَه، ولم يَقْصُرِ اللَّهُ العلمَ والشعرَ والبلاغةَ على زمنٍ دونَ زمنٍ، ولا خَصَّ به قومًا دونَ قومٍ، بل جعلَ ذلك مُشْتَركًا مَقْسُومًا بين عبادِه في كُلِّ دَهْرٍ، وجعلَ كُلَّ قَدِيمٍ حديثًا


(١) ما بين الأقواس «» من كلام المبرد في «الكامل» (١/ ٤٣).
(٢) انظر: كشف الظنون (١/ ٣٩) , ولأحمد بن فارس (رحمه الله) كلام مفيد في هذا الموضوع نقله الأُستاذ عبد السلام هارون (رحمه الله) في مقدمة التحقيق لكتاب (المقاييس في اللغة) (١/ ١٥ - ٢٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>