للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن الصلاةَ صعبةٌ شَاقَّةٌ على غيرِ مَنْ فِي قُلُوبِهُمُ الخوفُ من الله، ويدلُّ لذلك شدةُ عِظَمِهَا على المنافقين، كما قال جل وعلا: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَاّ قَلِيلاً} [النساء: آية ١٤٢]، وقال جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (٥)} [الماعون: الآيتان ٤، ٥].

وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: آية ٤٦]، {الَّذِينَ} في مَحَلِّ خفضٍ نعتٌ للخاشعين (١) أَيْ: {إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ}. والظنُّ هنا معناه اليقينُ، على التحقيقِ (٢)، خلافًا لمن شَذَّ فزعم أنه الظنُّ المعروفُ، وأن المتعلقَ محذوفٌ، والمعنى: يظنون أنهم مُلَاقُو رَبِّهِمْ بِذُنُوبٍ، فَهُمْ وَجِلُونَ من تلك الذنوبِ. فهذا غيرُ ظاهرٍ، ولا يجوزُ حَمْلُ القرآنِ عليه وإن قال به بعضُ العلماءِ (٣). والتحقيقُ أن معنى: {يَظُنُّونَ}: يُوقِنُونَ، وقد تَقَرَّرَ في علمِ العربيةِ أن الظنَّ يُطْلَقُ في العربيةِ وفي القرآنِ إِطْلَاقَيْنِ (٤):

يُطْلَقُ الظنُّ بمعنى اليقينِ، ومنه قولُه هنا: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: آية ٤٦]، أي: يُوقِنُونَ، ومنه بهذا المعنى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: آية ٢٠]، أي: أيقنتُ أني ملاقٍ حِسَابِيَهْ، ومنه قولُه تعالى: {وَرَءَا المُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: آية ٥٣]، أي: أَيْقَنُوا أنهم مُوَاقِعُوهَا ... إلى غير ذلك من الآيات. ومن أمثلةِ إطلاقِ العربِ الظنَّ على اليقينِ قولُ دُرَيْدِ بن الصِّمَّةِ (٥):

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ

فقوله: «ظُنُّوا» أي: أَيْقِنُوا.

وقول عميرة بن طارق (٦):

بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدُ فِيكُمُ ... وَأَجْعَلُ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا

أي: أجعلُ مني اليقينَ غَيْبًا مُرَجَّمًا، فمعنى {يَظُنُّونَ} أي: يُوقِنُونَ.


(١) انظر: القرطبي (١/ ٣٧٥)، الدر المصون (١/ ٣٣٢).
(٢) انظر: أضواء البيان (١/ ٧٥)، دفع إيهام الاضطراب (ملحق بالأضواء ص٢٠).
(٣) انظر: الدر المصون (١/ ٣٣٢).
(٤) انظر: المقاييس في اللغة: كتاب الظاء، باب الظاء وما معها في المضاعف والمطابق، (مادة: ظن) ص٦٣٩، ابن جرير (٢/ ١٧ - ١٨).
(٥) انظر: ابن جرير (٢/ ١٨)، اللسان (مادة: ظنن) (٢/ ٦٥٤).
(٦) انظر: ابن جرير (٢/ ١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>