للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أنه يوجب قبوله إذا اشتهر (٧٣) واستفاض فهذا الحكم ثابت عندنا من التواتر الذى طالعنا دليله أكثر من مرة. ونحو ذلك يقال فى انفرادات باقية فى المعمول به (٧٤).

[التواتر وقبيل الأداء:]

المد والإمالة- مثلا- من صفات الأداء المتواترة، ومن أجزاء القرآن كما سبق فى بيان تواتر القراءات، إذ اللفظ مادة وهيئة، والهيئة تسمى صفة، وصورة. أما قبيلها: فقبيل المد هو ذلك الاختلاف فى قدره، وقبيل الإمالة هو ذلك الاختلاف فى قدر ما تنحى به الإمالة (٧٥). وقس على ذلك بقية صفات الأداء وقبيلها (٧٦).

وما كان من هذا القبيل واضحا فهو منقول متواتر لأنه جزء من القرآن، كزيادة المد المتصل على الطبيعى. وما كان دقيقا غامضا ككون هذه الزيادة بمقدار زمنى من الثوانى هو كذا وكذا، أو ككون نطقى بالمد فى طوله كنطق شيخى بلا أدنى زيادة ولا أدنى نقصان، أو ككون نطقى بالمد فى المرة الثانية جاء على طول المرة الأولى التى رضيها شيخى بلا أدنى زيادة ولا أدنى نقصان، فإن هذا القبيل الدقيق الغامض نوع آخر ليس من نوع ما يتواتر أو لا يتواتر، وليس داخلا فيما يقع به التكليف، بل الأمر فيه على السعة واليسر بدون إفراط ولا تفريط.

والخلاصة أن ما أدركه القراء بآذانهم وشعورهم ونقلوه فى التلاوة فهو من أجزاء القرآن المتواترة، من قبيل الأداء كان ومن الهيئة أو من قبيل جواهر الألفاظ، كمد مالِكِ، وقصرها، والصاد المخلوطة بالزاى فى الصِّراطَ، والإمالة الكبرى، والإمالة الصغرى.

وما كان من الأمور الغامضة والعسيرة والمتعذرة فلا كلام فيه.

وما كان من إفراط فى المد مثلا، أو مبالغة فى الإمالة حتى صارت كسرا أو صارت قريبة منه جدا فإنه من نوع قبيل الأداء، لكنه القبيل الذى أدركه أهل الصنعة وأدركوا أنه غير منقول، فمنعوا منه (٧٧).

ثم ننبه إلى أمر، وهو:

الشاذ المروى عن بعض العشرة- فنقول:

المعمول به فى التلاوة التعبدية هو المتواتر عن القراء العشرة، وما شذ عن المعمول به فهو شاذ- كما سبق- حتى لو كان منسوبا إلى بعض العشرة.

وذلك أن الإمام منهم كان يقرئ بالوجوه


(٧٣) انظر منجد المقرئين ٦٢ - ٦٤ والمرشد الوجيز لأبى شامة فى هذه المسألة.
(٧٤) مثال ما اختلفت الطرق فى نقله: الفتح أو الإمالة من طرق دورىّ الكسائى فى (يوارى) و (أوارى) فى المائدة، و (يوارى) فى الأعراف، و (فلا تمار) فى الكهف، فإنها من طريق الضرير عن دورىّ الكسائى من طرق الضرير الثانى عشرة بالإمالة، ومن طريق النصيبى عن دورىّ الكسائى من طرق النصيبى الستة بالفتح. فمن زعم أن الفتح مثلا غير متواتر عن الدورى عن الكسائى قلنا له: الدليل العقلى قائم على تواتر تفاصيل القرآن- وهذا منها- وهو مبين فى موضعه من هذا البحث- والإجماع على هذا الفتح
وغيره مما استقر فى المعمول به عن القراء العشرة من أى طريق حاصل، والناقلون أكثر بكثير جدا مما اقتصر عليه فى تدوين العلم، وكل طريق فى طبقة فإنها فيها وليست وحدها، فلو كانت أتت بما لا تعرفه الجماعة، ما سكتت الجماعة.
وفوق هذا كله أن أى ختمة من أى طريق من الطرق المعمول بها لا يمكن أن يستقر فيها ما ليس من القرآن- والقرآن متواتر بالإجماع- لأن الله تعالى تولى حفظه بنفسه، قال- سبحانه-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ انظر مرجع الحاشية (١٤) ص ٥٧٣ وغيرها.
ومثال الانفرادات الباقية فى المعمول به: قراءة (سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) بلفظ الجمع (سقاة)، و (عمرة) فى وجه عن ابن وردان عن أبى جعفر. فمن زعم أن مثل هذه الانفرادة الباقية فى المعمول به غير متواترة ويكفى أنها صحيحة السند قلنا له مثل ما قلنا، آنفا، وزدنا على سبيل الدراية مع صحة الرواية والتواتر أنه لولا قرآنية هذه الانفرادات التى خلت منها بعض كتب ابن الجزرى بعد إثباته لها فى النشر، ودخلت فى بعض كتبه أخيرا- لولا قرآنيتها ما ساغ له أن يذكرها ويقرئ بها القرآن، ويجعل ذلك آخر أمره. انظر المرجع السابق ص ٥٥٧ - ٥٧٩ وغيرها.
هذا والانفرادات الباقية فى المعمول به، وما اختلفت الطرق فى نقله وعمل بمختلفه مستقرأ فى تلاوة القرآن الكريم- كلاهما شىء واحد، وإنما ميزناهما لوقوع الكلام عليهما فى المراجع هكذا كأنهما نوعان. وقيد البقاء فى المعمول به ضرورى، فإن مما اختلفت الطرق فى نقله ما عدّ من قبيل الوهم، فلا يجوز العمل به، كما أن من الانفرادات ما ترك ففقد التواتر، وانقطع سنده، فلا يجوز العمل به أيضا.
وتفصيل ذلك كله يعلم من رسالة (القراءات ... ) وغيرها.
(٧٥) انظر منع الموانع للشيخ زكريا الأنصارى وجه الورقة ٥٥ مخطوط مكتبة الأزهر رقم ١٤٥١ أصول فقه.
(٧٦) وهى محصورة ومشروحة تفصيلا فى رسالة (القراءات ... ) ص ٣٦٨ وغيرها.
(٧٧) انظر التفاصيل فى المرجع السابق ٣٦٨ - ٣٧٢، ٥٨٤ - ٥٨٧، وما تدل عليه من صفحات أخرى مثل ص ٥٧٩ إلخ.