للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الآية دليل آخر على هذا الحذف، ولفت الذهن إليه: وهو الفعل لا يَسْتَوِي فى صدر الآية، لأنه يستدعى طرفين بينهما تفاوت ليتحقق نفى المساواة بينهما. وليس فى صدر الآية إلا طرف واحد موصوف بصفات الكمال. وهذا يقتضى حضور الطرف الثانى فى الذهن ليستقيم الكلام ويحسن السكوت عليه.

والداعى البلاغى لهذا الحذف هو تهذيب العبارة لأن المعنى الذى يدركه الفهم إدراكا قويا مع حذف الألفاظ الدالة عليه، يكون فى ذكرها فضول يتنزه عنه البيان الحكيم.

ومنه كذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦). وفى هذه الآية حذوفات، والتقدير: «والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القربات الخالصة لوجه الله تعالى، ويخافون أن ترد عليهم صدقاتهم» أو المحذوف هو: «يخافون أن ترد عليهم صدقاتهم، أن ترد عليهم جميع قرباتهم التى قدموها طامعين فى قبول الله لها، وإثابتهم عليها» ودليل هذه الحذوفات هو قوله تعالى:

قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ لأن الوجل الحاصل فى القلوب ليس من نفس الطاعات المرجو بها وجه الله، وإنما من بوارها وكسادها وردّ الله إياها.

أما السر البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز وتكثير المعانى مع قلة الألفاظ المستعملة فيها.

وفى الإيجاز عموما ميزة لا تنفك أبدا، بل هى ملازمة له ملازمة الروح للجسد النامى بالحياة وهى اختصار الزمن فى النطق، واختصار المساحة فى الورق.

وقد بلغ الحذف قدرا كبيرا لم نعهده من قبل، وذلك فى قوله تعالى: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ (٧).

والإيجاز بالحذف- هنا- موطنه قبل قوله تعالى حكاية عن ملك مصر فى عصر يوسف عليه السّلام: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ لأن الآيات المذكورة قبله كلام قاله يوسف عليه السّلام للفتى الذى أرسله الملك إلى يوسف، ليعبر له رؤياه، ولم يكن الملك حاضرا حين قال يوسف عليه السّلام لرسول الملك هذا الكلام. ولكن الذى حدث- لا محالة- أن الفتى لما رجع من عند يوسف عليه السّلام أبلغ الملك وحاشيته ما قاله له يوسف، بدءا من قوله: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً


(٦) المؤمنون (٦٠).
(٧) يوسف (٤٧ - ٥٠).