للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عرش بين السماء والأرض- فأخذتنى رجفة فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثرونى؛ فأنزل الله:

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ المدثر: ١ - ٢».

لكن هذه الرواية ليست نصا فيما نحن بسبيله من إثبات أول ما نزل من القرآن إطلاقا، بل تحتمل أن تكون حديثا عما نزل بعد فترة الوحى، وذلك هو الظاهر من رواية أخرى رواها الشيخان أيضا عن أبى سلمة عن جابر أيضا: فبينما أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء؛ فرفعت بصرى قبل السماء فإذا الملك الذى جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض فجثثت- أى ثقل جسمى عن القيام- حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلى؛ فقلت: زملونى، فزملونى فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ.

فظاهر هذه الرواية يدل على أن جابرا استند فى كلامه على أن أول ما نزل من القرآن هو المدثر- إلى ما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يحدث عن فترة الوحى، وكأنه لم يسمع بما حدّث به رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الوحى قبل فترته من نزول الملك على الرسول صلّى الله عليه وسلم فى حراء بصدر سورة اقرأ كما روت عائشة- رضى الله عنها- فاقتصر فى إخباره على ما سمع ظانا أنه ليس هناك غيره؛ اجتهادا منه، غير أنه أخطأ فى اجتهاده بشهادة الأدلة السابقة فى القول الأول، ومعلوم أن النص يقدم على الاجتهاد، وأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال؛ فبطل إذا القول الثانى وثبت الأول (٣).

أقول: لعل جابر بن عبد الله أراد أن أوائل المدثر نزل فى أول الرسالة، وآيات سورة العلق نزلت فى بدء النبوة، وبذلك يرتفع الإشكال بدليل قوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ.

أو أن آيات المدثر من أوائل ما نزل، لا أول ما نزل على الإطلاق. والله أعلم.

واختلف العلماء فى آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق اختلافا كثيرا، لعدم وجود أثر صحيح مسند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتمد عليه فى تحقيق ذلك على وجه يقطع الخلاف ويزيل الالتباس، وقد انتهت أقوال العلماء فى هذا الأمر إلى عشرة أقوال أشهرها أربعة:

الأول: آخر ما نزل قوله- تعالى- فى سورة البقرة: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ البقرة: الآية: ٢٨١. أخرجه النسائى من طريق عكرمة عن ابن عباس.

وكذلك أخرجه ابن أبى حاتم قال: آخر ما نزل من القرآن كله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وعاش النبى صلّى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال، ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول.


(٣) انظر مناهل العرفان للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى ج ١ ص ٨٧، ٨٨ ط عيسى البابى الحلبى وشركائه.