للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأكبر من الإعجاز وهو بلاغته الساطعة، إذ جاء القرآن ببديع النظم متناهيا فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عن الإتيان بمثله، وقد ذكر الدكتور شوقى ضيف «أن الباقلانى متأثر بالجاحظ فيما ذهب إليه من أن مرجع الإعجاز إلى نظم القرآن المخالف لأساليب العرب نثرا وشعرا، كما أنه متأثر بالرمانى فيما ذهب إليه من أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقات البلاغة» (٣٠) - وقد أشرنا لذلك من قبل، كما أن المؤلف تحدث عن اطّراد البلاغة فى القرآن دون تفاوت ولا تباين بخلاف كلام الفصحاء الذى يوجد فيه التفاوت والاختلاف، وقد فرق بين الفاصلة والسجع بما كان موضع نقاش للدارسين من بعده، وألمّ بفنون البديع من المطابقة والتكافؤ والجناس والاعتراض والتذييل، وانتهى إلى أن الوقوف على الإعجاز لا يتأتى إلا لمن عرف وجوه البلاغة العربية وتكونت لديه ملكة يقيس بها الجودة والرداءة فى الكلام فيستطيع أن يفرق بين الشعراء والأدباء فرقا دقيقا بما وهبه الله من هذه الملكة، وفى حديثه عن التفاوت يعرض قصائد لامرئ القيس والبحترى عرضا مسهبا ليظهر تفوق القرآن عليها. ويخيل إلىّ أنه لم ينته إلى الصواب فى ذلك. لأن المقارنة لا تقوم على وجهها الأصيل إلا إذا اتحد الموضوع فى غرضه، ولا يوجد اتحاد بين الكتاب المبين وما تعرض له الشعراء من الأغراض، ولست أنكر تفوق الأسلوب القرآنى على هذه القصائد وغيرها، وإنما أنكر أن تكون هذه الموازنة دقيقة فى اتجاهها النقدى.

وأكبر ما اهتدى إليه الباقلانى هو نقده لمن قال إن فنون البديع تدل على وجوه الإعجاز، إذ لا قيمة لهذه الفنون وحدها دون ملكة قوية تكون هى الحكم فى الترجيح، وللباقلانى فى كتابه الكبير مواقف ممتازة فى التحليل الأدبى، ومواقف أخرى تعجله السرعة عن الإتمام بما يشفى حاجة القارئ وسنمثل لكل من الاتجاهين، فهو قد وفّق حين مثل بقول الله عز وجل: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٣١) حيث قال: «وجه الوقوف على شرف هذا الكلام أن تتأمل موقع قوله: «همت كل أمة برسولهم ليأخذوه» فهل تقع فى الحسن موقع قوله ليأخذوه كلمة، وهل تقوم مقامه فى الجزالة لفظة، لو وضع موضع ذلك «ليقتلوه أو ليرجموه أو لينفوه أو ليطردوه أو ليهلكوه أو ليذلوه ونحو هذا ما كان ذلك بعيدا ولا بارعا ... فإن كنت


(٣٠) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف ص ١٠٩ - دار المعارف طبعة سنة ١٩٦٥ م.
(٣١) سورة غافر: ٥، ٦.