للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وننقل هنا أيضًا كلامًا نفيسًا للإمام القرطبي في تفسيره نُهْدِِيه للمفتي لنَرُدّ به اتهامه للسلفيين بأنهم يقلدون في العقائد، قال الإمام القرطبي: «ذَهَبَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِف اللهَ تَعَالَى بِالطُّرُقِ الَّتِي طَرَقُوهَا وَالْأَبْحَاث الَّتِي حَرَّرُوهَا لَمْ يَصِحّ إِيمَانه وَهُوَ كَافِر؛ فَيَلْزَم عَلَى هَذَا تَكْفِير أَكْثَر الْمُسْلِمِينَ , وَأَوَّل مَنْ يَبْدَأ بِتَكْفِيرِهِ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافه وَجِيرَانه.

وَقَدْ أُورِدَ عَلَى بَعْضهمْ هَذَا فَقَالَ: «لَا تُشَنِّع عَلَيَّ بِكَثْرَةِ أَهْل النَّار». أَوْ كَمَا قَالَ.

قُلْت (١): وَهَذَا الْقَوْل لَا يَصْدُر إِلَّا مِنْ جَاهِل بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّة نَبِيّه - صلى الله عليه وآله وسلم - لِأَنَّهُ ضَيَّقَ رَحْمَة اللهِ الْوَاسِعَة عَلَى شِرْذِمَة يَسِيرَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ , وَاقْتَحَمُوا فِي تَكْفِير عَامَّة الْمُسْلِمِينَ.

أَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْل الْأَعْرَابِيّ الَّذِي كَشَفَ عَنْ فَرْجه لِيَبُولَ , وَانْتَهَرَهُ أَصْحَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللَّهُمَّ اِرْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَم مَعَنَا أَحَدًا». فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَقَدْ حَجَرْت وَاسِعًا». خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة (٢).


(١) أي الإمام القرطبي.
(٢) عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي صَلاَةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا». فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا» يُرِيدُ رَحْمَةَ اللهِ. (رواه البخاري).
وفي رواية لأبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَالِسٌ فَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا»، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا». ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ، صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» أَوْ قَالَ: «ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ». (رواه أبو داود وصححه الألباني).
والسَّجْل: الدلو إذا كان فيه ماء قلّ أو كثر، ولا يقال لها وهي فارغة «سَجلٌ»؛ والذَّنُوب: الدلو العظيمة إذا كانت مَلأى ماء، وقد يكون فيها ماء قريب من المِلء.
[باختصار من شرح سنن أبي داود لبدر الدين العيني الحنفي (٢/ ٢١١)].

<<  <   >  >>