للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَانَ يَخْلُو بغَارِ حِرَاءَ، فَيَتَحنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التُّعَبُّدُ اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ في غَارِ حِرَاءَ، فجاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأ، قَالَ: مَا أنَا بِقَارِىءٍ، قَالَ: فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي

ــ

تصفيةً لقلبه، وتزكية لروحه، وإبعاداً له عن الباطل وأهله. فاختار - صلى الله عليه وسلم - لنفسه هذه العزلة عن رغبة وعاطفة، حيث وجد فيها لذة الروح، وسلوة النفس، ومتعة القلب، بالأنس بالله تعالى، وذلك من مقدمات نبوته. " فكان يخلو بغار حراء " (١) أي فكان - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى غارٍ منزوٍ في جبل حراء، على يسار الذاهب إلى منى، وعلى بعد ثلاثة أميال من مكة، فينفرد في ذلك الغار، لكْي يجمع بين الخلوة والتعبد والنظر إلى بيت الله الحرام، ولا تجتمع هذه المزايا العظيمة إلاّ في غار حراء الذي يطل على الكعْبة، فيمكنه من النظر إليها، والنظرُ إلى البيت عبادَة. " فيتحنث فيه " أي فيكثر هناك من عبادة الله تعالى ليالي وأياماً عديدة، ولا يمكن القطع في كيفية عبادته - صلى الله عليه وسلم - لأنّه لم يرو شيء عن ذلك في الأخبار الصحيحة، ولكنّ الذي يرجحه المحققون من أهل العلم أنه كان يتعبد بالتفكير والتأمل في هذا الكون ومُبْدِعه، والفكر عبادة " قبل أن يَنْزِعَ إلى أهله " (٢) أي فيمكث هناك في غار حراء فترة من الزمن حتى يحن إلى أهله، ويقوى اشتياقه إليهم، ويفرغ زاده " ثم يرجع إلى خديجة " أي فإِذا اشتد به الحنين إلى أهله، وانتهي ما معه من الزاد عاد إِلى خديجة مرَّة أخرى. " فيتزود لمثلها " أي فيأخذ من خديجة زاداً جديداً، يصطحبه معه إلى غار حراء. " حتى جاءه الحق " أي واستمر سيدنا محمد


(١) بالمد والقصر والتذكير والتأنيث والصرف وعدمه.
(٢) يقال نزع إلى أهله إذا حن إلى رؤياهم، وناقة نازع إذا حنت إلى مرعاها.

<<  <  ج: ص:  >  >>