للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقاعدة المقررة عند الفقهاء "جواز ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما" والقاعدة الأخرى "احتمال المفسدة المرجوحة لتحصيل المصلحة الراجحة" ولم تزل هاتان القاعدتان دستور الساسة المهرة في كل العصور، وقد اتفقت على صحتهما الأمم.

وقد قال الله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} (١).

وأباح الله تعالى النطق بكلمة الكفر للتخلّص من الأذى، إذا اطمأن القلب بالإيمان.

وقال ابن حجر: روينا في مسند الروياني وغيره بإسناد صحيح عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "كيف ترى جُعيْلاً؟ " قال: كشكله من الناس، يعني المهاجرين. قال: "فكيف ترى فلاناً؟ " قال: سيد من سادات الناس. قال: "فجعيل خير من ملء الأرض من فلان". قال: قلت: ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع؟ قال: "إنه رأس قومه فأنا أتألفهم به" (٢).

فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرّم ذلك الرجل تألُّفاً لقومه دون أن يكون أهلًا للكرامة لذاته.

وقد أجاب القاضي عبد الجبار بمنع جواز التُّقْيَة للرسول، في ما أمر بأدائه، يقول: "ولو كانت مجوّزة لم تعظم رتبة النبي، لأنها إنما تعظم لأنه يتكفّل بأداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونه" (٣).

والمعتمد في الجواب أن يقال: إن المهمّة الأولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت البيان عن الله تعالى. فحيث كانت السياسة لا تتعارض مع البيان، فلا إشكال، كأن يقدّم بعض المباح ويؤخّر بعضه. ومنه عندي حديث جعيل، المتقدم.


(١) سورة آل عمران: آية ٢٨
(٢) فتح الباري ١/ ٨٠
(٣) المغني ١٥/ ٢٨٤

<<  <  ج: ص:  >  >>