للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بقعة من المسجد مثلاً، فقد قصد أن يصلي فيها، لا شك في ذلك، لكن قد يكون قَصدَها لأنه يريد موافقة الشرع بتخصيصها، كالصلاة عند المقام، فيكون تخصيصها مطلوباً في حقنا شرعاً، وقد يكون قصدها مع أنها عنده غير متميزة شرعاً عما سواها بشيء، وإنما قصده قصد عاديّ لغرض موقوت، كأن تكون أقرب إليه مما سواها، أو لأنّ فيها ظلاً يستظل به من الشمس مثلاً، أو لغير ذلك. فلا يدل على استحباب تخصيصها أو وجوبه.

وبهذا يرد على من زعم استحباب الصلاة عند أساطين معينة من المسجد

النبوي، أو في بقاع معينة من أنحاء المدينة وغيرها، لمجرد أنه قد نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قد صلى فيها، أو عمل فيها عملاً ما (١).

ولم يفرق ابن تيمية بين القصدين، فقد ذكر تحري سلمة بن الأكوع الصلاة عند سارية المصحف من المسجد النبوي. قال سلمة: "إني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الصلاة عندها" (٢). يقول ابن تيمية: "وقد ظنّ بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه، وليس بجيّد، فإنه هنا قد أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرّى البقعة، فكيف لا يكون هذا القصد مستحباً" (٣) اهـ.

ونحن نجيبه بما تقدم من التفريق بين القصدين. وأما ما فعله سلمة رضي الله عنه، فليس فعله حجة. ولعله فعله بناء منه على أن ذلك التحري من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لقصد شرعي. فإن تلك البقعة المعينة واقعة بين المنبر والبيت، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي".

المسألة الثانية: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يقصد في الفعل الواحد بعض متعلقاته على سبيل الوجوب، وبعضها على سبيل الندب، وبعضها على سبيل الإباحة، فتختلف الأحكام المستفادة بحسب ذلك. فعندما صلى صلاة الاستسقاء ركعتين، كان لابساً ملابس بذلة، لها لا شك لون خاص. فأما كون الصلاة ركعتين فذلك واجب، وأما التبذل في الثياب في صلاة الاستسقاء فمستحب، وأما اللون فمباح.


(١) ذكر في (الرصف) مواضع نقلت فيها أفعال النبي بالمدينة وغيرها (١/ ١٦٣ - ١٧٠)
(٢) رواه البخاري (فتح الباري ١/ ٥٧٧)
(٣) اقتضاء الصراط ص ٣٨٩

<<  <  ج: ص:  >  >>